ألمانيا، التي تدير حكومتها ومؤسساتها العامة والخاصة الآثار الصحية والاقتصادية والاجتماعية لجائحة كوفيد ـ 19 بكفاءة تحسد عليها من الجوار الأوروبي (لا تتوقف المقارنات في الصحافة الفرنسية والإيطالية بين أحوال البلدين وأحوال الألمان) ومن بقية العالم (بعض المواقع الإعلامية الأمريكية تنشر يوميا إحصائيات لمعدلات الإصابات والوفيات المدنية في ألمانيا وتضعها في مقابل المعدلات المرتفعة في الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والبرازيل وغيرها)، تشهد أيضا بفعل الجائحة تغيرات سياسية هامة.
خلال السنوات الماضية، صعد اليمين المتطرف ممثلا في حركة «البديل لألمانيا» انتخابيا وسياسيا على نحو غير مسبوق وتراجعت نسب التأييد الشعبي للأحزاب التقليدية التي قادت الحكومات الألمانية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. ساءت النتائج الانتخابية للحزب المسيحي الديمقراطي الذي تقوده المستشارة أنجيلا ميركل على خلفية دفاعها عن سياسات استقبال اللاجئين في صيف 2015، واضطرت المستشارة التي واجهت انتقادات شديدة داخل حزبها إلى التخلي عن زعامته وإعلان عدم ترشحها لمنصب المستشارية مجددا حين تنتهي الدورة الراهنة في 2021. ساءت أيضا نتائج الحزب الاشتراكي الديمقراطي شريك ميركل في الحكومة الائتلافية والذي هجره الكثير من ناخبيه ذوي الخلفيات العمالية والنقابية أمام صناديق الاقتراع واتجهوا للتصويت إما لليسار الجديد ممثلا في حزب الخضر أو لليمين المتطرف.
صعد اليمين المتطرف وتراجعت الأحزاب التقليدية في ألمانيا على الرغم من عدم حدوث أزمات اقتصادية حادة ترتب ارتفاع معدلات البطالة أو جمود مداخيل الطبقات الوسطى مثلما كان الحال في بلدان أوروبية أخرى كاليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال. خلال السنوات الماضية، استمر الأداء القوي للاقتصاد الألماني وترجم نفسه في معدلات بطالة منخفضة وفي موازنة فيدرالية لا استدانة واسعة بها وفي ميل ميزان العلاقات التجارية مع البلدان الكبرى لمصلحة ألمانيا (باستثناء العلاقات التجارية مع الصين). لم يكن ممكنا، إذا، تفسير صعود اليمين المتطرف أو أزمة الأحزاب اليمينية واليسارية التقليدية بين 2015 و2019 بالاستناد إلى العوامل الاقتصادية. وتناقضت هذه الحقيقة مع ما سبق وشهده المجتمع الألماني من صعود لليمين المتطرف في تسعينيات القرن العشرين، عقب انهيار سور برلين في 1989 وإنجاز الوحدة بين الشرق والغرب في 1990. فآنذاك، ارتبط الأمر بالمعاناة الاقتصادية والاجتماعية في الولايات الشرقية التي ارتفعت بها معدلات البطالة وتضخم بها اعتماد السكان على الإعانات الحكومية وانهارت يوميات حياتهم التي شكلها النظام الاشتراكي في ألمانيا الشرقية لعقود طويلة. آنذاك، استغل اليمين المتطرف ظرف الأزمة للوصول إلى برلمانات بعض الولايات الشرقية كما استغلته أيضا بعض الحركات النازية الجديدة للاعتداء على الأجانب وطالبي اللجوء والمقيمين من ذوي الأصول الأجنبية.
في تسعينيات القرن العشرين، انحسر صعود اليمين المتطرف جغرافيا في ولايات الشرق الألماني. أما خلال السنوات الماضية، فقد انتشرت أحزاب وحركات اليمين المتطرف في عموم ألمانيا ولم تجد بين 2015 و2019 صعوبة في الفوز بأصوات انتخابية تضمن تمثيلها في برلمانات بعض الولايات الغربية التي استقرت إجراءاتها الديمقراطية وتقاليدها البرلمانية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. في تسعينيات القرن العشرين، استند اليمين المتطرف إلى المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي تلت الوحدة الألمانية واجتذب قطاعات مؤثرة من ناخبي الشرق بمقولات عنصرية ووطنية متطرفة. أما خلال السنوات الماضية، فقد ارتكزت أجندة اليمين المتطرف إلى خطابين للكراهية، كراهية الغريب وكراهية أوروبا.
أما كراهية الغريب، فاتجهت إلى مئات الآلاف من اللاجئين الذين وفدوا ألمانيا بعد 2015 وملايين المقيمين ذوي الأصول الأجنبية وروجت بقبح وبتجاهل لإسهاماتهم للتخوف من وجودهم على الرخاء الاقتصادي والسلام الاجتماعي والنظام العلماني والهوية الحضارية ـ الثقافية في ألمانيا.
اكتشف الناس أن إدارة الأزمات والتحديات المجتمعية الكبرى لا تصلح لها خطابات الكراهية ولا مقولات العنصرية وأن الممارسة المسؤولة للسياسة تظل هي مناط الأمل
أما كراهية أوروبا، فارتبطت بالترويج لرفض السياسات الاقتصادية والمالية والقانونية للاتحاد الأوروبي التي صورها اليمين المتطرف ومعه قطاعات شعبية ليست بالمحدودة على أنها تمثل ظلما فادحا لألمانيا التي تناسى اليمين المتطرف إفادتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبيرة من أوروبا واختزل الأمر بوطنية فجة في توريط مستمر لألمانيا في إنقاذ اقتصاديات اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وغيرها من أزمات متتالية وفي إجبار الألمان على فتح سوق العمل أمام عمالة رخيصة من وسط وشرق أوروبا على نحو أضر بأجور الألمان. ترجم اليمين المتطرف خطابي الكراهية إلى مطالبة مباشرة بترحيل اللاجئين وإغلاق الأبواب أمام المهاجرين، وإلى تبني مقولات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي والتوقف عن الإنفاق على من صورهم كالكسالى وغير الراغبين في العمل في عموم أوروبا. وبخطابي الكراهية، كراهية الغريب وكراهية أوروبا، حقق اليمين المتطرف بين 2015 و2019 نجاحات انتخابية غير مسبوقة.
خصم صعود اليمين المتطرف من شعبية يمين الوسط في ألمانيا ممثلا في الحزب المسيحي الديمقراطي للمستشارة ميركل وللحزب المسيحي الاجتماعي (الشريك الإقليمي الصغير للمسيحي الديمقراطي) والحزب الديمقراطي الحر الرافع تقليديا للواء الاقتصاد الحر والحكومة الصغيرة. تحملت هذه الأحزاب الثلاثة الثمن السياسي المباشر لصعود اليمين المتطرف، حيث تراجعت نسب الأصوات الانتخابية التي استحوذت عليها واضطرت تحت وطأة الترويج لخطابات الكراهية ولمقولات الخوف من قبل اليمين المتطرف إلى قبول الانحراف في أجنداتها السياسية باتجاه أكثر تشددا فيما خص قضايا اللجوء والهجرة وأوروبا.
بين 2015 و2019، خرجت من بين صفوف المسيحي الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي والديمقراطي الحر العديد من الأصوات القيادية التي طالبت بترحيل اللاجئين وإغلاق أبواب الهجرة والامتناع عن «الإنفاق» على بلدان أوروبا المأزومة اقتصاديا. وأجبرت ميركل إزاء تراجع معدلات رضاء الناخبين عن أداء حكومتها وبفعل تكرر الانتقادات الموجهة لسياساتها بشأن استقبال اللاجئين من داخل حزبها وأحزاب يمين الوسط على تغيير بعض سياساتها بشأن استقبال اللاجئين. المستشارة التي طالب كثيرون في 2015 بمنحها جائزة نوبل للسلام بسبب دورها في إنقاذ اللاجئين السوريين الذين تدفقوا على أوروبا، قبلت في 2018 الإغلاق النسبي لأبواب اللجوء والهجرة وتخلت عن زعامة حزبها دون أن يوقف ذلك المنحنى الهابط لشعبيتها. خصم صعود اليمين المتطرف أيضا من شعبية اليسار التقليدي ممثلا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
رفض الاشتراكيون الديمقراطيون مجاراة خطابات الكراهية، ولم يتمكنوا من إيقاف انجراف بعض القطاعات العمالية والنقابية التي اعتادت التصويت لهم باتجاه اليمين المتطرف. فقط حزب الخضر كممثل لليسار الجديد نجا من التداعيات السلبية لصعود اليمين المتطرف، حيث واصل حصد تأييد الشباب المهمومين بقضايا التغيرات المناخية والطاقة البديلة وكذلك العديد من سكان المدن المنفتحة عالميا كبرلين الذين اعتادوا الحياة في مجتمعات هجين.
كان ذلك هو المشهد السياسي والحزبي الألماني حين ضربت جائحة كوفيد-19 العالم وطالت منذ شتاء 2020 القارة الأوروبية. بكفاءة، تحركت حكومة الحزبين التقليديين، المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي، برئاسة ميركل للتعاطي مع آثار الجائحة وأعلنت عن حزمة من القرارات والإجراءات لتأمين نظم الرعاية الصحية وتقديم المساعدات الاقتصادية والاجتماعية للقطاعات السكانية المتضررة من الجائحة وكذلك لضمان استقرار سوق العمل وتمكين أصحاب الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة من مقاومة الركود الاقتصادي الذي أحدثه توقف الحياة العامة.
وظفت ميركل المتبقي من ثقة شعبية بها لمخاطبة الرأي العام بشفافية كاملة بشأن آثار الجائحة واحتياج حكومتها لتضامن المجتمع معها للسيطرة على معدلات الإصابات والوفيات وللحد من الأضرار الاقتصادية والاجتماعية. وظفت حكومة ميركل أيضا الثقة الشعبية في وزير المالية أولاف شولتز المنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي والمعروف عنه دفاعه الدائم عن حقوق محدودي الدخل والطبقات الوسطى لإقناع الناس بنجاعة القرارات والإجراءات الحكومية وبعدم تورطها في التحيز للأغنياء وأصحاب الاستثمارات الكبرى.
والنتيجة، ووفقا لاستطلاعات الرأي العام الراهنة في ألمانيا، ارتفاع معدلات التأييد الشعبي لميركل وحكومة الحزبين المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي مما دون 30 بالمائة في 2018 و2019 إلى ما يقرب من 70 بالمائة في ربيع وصيف 2020. والنتيجة أيضا هي تهاوي معدلات تأييد أحزاب اليمين المتطرف مما فوق 20 بالمائة في 2018 و2019 إلى ما دون 10 بالمائة حاليا، وذلك بعد أن اكتشف الناس أن إدارة الأزمات والتحديات المجتمعية الكبرى لا تصلح لها خطابات الكراهية ولا مقولات العنصرية وأن الممارسة المسؤولة للسياسة تظل هي مناط الأمل في تحجيم أضرار الأزمات والسيطرة على آثارها السلبية. وليست جائحة كوفيد-19 باستثناء.
عمرو حمزاوي