من دلالات الفكر الملكي الاستشرافي …
استثمار مؤهلات الصحراء المغربية
بقلم : عبد الرزاق الزرايدي بن بليوط ، رئيس مجموعة رؤى فيزيون الإستراتيجية و رئيس مكتب غرفة التجارة المغربية الإفريقية البرازيلية بالمغرب
في آخر خطاب للملك محمد السادس، إلى الأمة المغربية، بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين للمسيرة الخضراء المظفرة، قال جلالته إن “التزامنا بترسيخ مغربية الصحراء، على الصعيد الدولي، لايعادله إلا عملنا المتواصل، على جعلها قاطرة للتنمية، على المستوى الإقليمي والقاري”، مؤكدا أنه “استكمالا للمشاريع الكبرى، التي تشهدها أقاليمنا الجنوبية، فقد حان الوقت، لاستثمار المؤهلات الكثيرة، التي يزخر بها مجالها البحري”.
وقال الملك إن “المغرب أكمل خلال هذه السنة، ترسيم مجالاته البحرية، بجمعها في إطار منظومة القانون المغربي، في التزام بمبادئ القانون الدولي”، مبرزا أنه “سيظل ملتزما بالحوار مع جارتنا إسبانيا، بخصوص أماكن التداخل بين المياه الإقليمية للبلدين الصديقين، في إطار قانون البحار، واحترام الشراكة التي تجمعهما، وبعيدا عن فرض الأمر الواقع من جانب واحد”.
و من هنا سنحاول من خلال المضامين الملكية الواردة في الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى 45 للمسيرة الخضراء، تفسير الأسباب التي دعت المغرب لوضع تشريع يرسم حدوده البحرية.
إن حرص المملكة على توضيح نطاق وحدود المجالات البحرية، الواقعة تحت سيادة المملكة، ورد التأكيد في الخطاب الذي وجهه الملك إلى الانتهاء من ترسيم المجال البحري للمملكة وجمعه في إطار منظومة القانون المغربي، في التزام تام بمبادئ القانون الدولي.
واختار الملك محمد السادس، الإعلان عن هذه الخطوة، في سياق خاص مطبوع باستعراض فكر استشرافي ملكي، قائم على أن أن الجهود التنموية في الأقاليم الجنوبية للمملكة، وما تمنحه من الآفاق الاقتصادية الواعدة، كلها إمكانيات ستفتح للمغرب في المستقبل المنظور أفاقا جديدة، ستجعله يستفيد ديبلوماسيا واقتصاديا وجيوسياسيا، وحتى المنطقة برمتها وكذا الدول الإفريقية الصديقة، كون الموانئ المغربية الكبرى التي تم إنشاؤها أو التي في طور الإنشاء، ستشكل بوابة للتبادل والنشاط التجاري مع القارة السمراء، والتي ستصبح معبرا في نفس الوقت للمبادلات الإسبانية بل الأوروبية اعتبارا للقرب الجيوسياسي والجغرافي من القارة الإفريقية.
فالملاحظ من الفكر الملكي، أن الإشارة إلى أهمية ترسيم الحدود البحرية لدعم جهود المغرب التنموية في الأقاليم الصحراوية، من شأنه أن يؤكد على أهمية إيجاد أرضية للحوار والتفاوض مشتركة، وجب إرساء معالمها من قلب الديبلوماسية الهجومية، التي تظهر معالمها الإيجابية في المدة الأخيرة، خصوصا على إثر شروع المغرب بتحديد مجال مياهه الإقليمية، ما استوجب تكثيف المشاورات والاتصالات بين المغرب واسبانيا وإعلان التزامهما الاحتكام إلى القانون الدولي، نافيين سعي أي منهما نحو تأزيم الوضع أو فرض الأمر الواقع. وهو الأمر الذي كانت إسبانيا أكدته من جانبها، في وقت سابق، معلنة اتفاقها المبدئي مع المغرب على تبني نفس المقاربة، من خلال تصريحات ومواقف متكررة، لوزيرة الخارجية التي زارت المغرب عقب الإعلان عن ترسيم حدود مياهه الإقليمية، سواء أمام الصحافة او البرلمان وعادت رئيسة الدبلوماسية الإسبانية، من زيارتها للرباط متفائلة بنتائج المحادثات مع المغرب.
وراء هذا الفكر الملكي الاستشرافي المشدد على ضرورة ترسيم الحدود البحرية، بدا واضحا لجوء المغرب إلى حقه في بسط سيادته على مجاله البحري، بغاية قطع الطريق على مزاعم متكررة لجبهة البوليساريو الانفصالية، التي شرعت في ترويج خرافة أن مياه المحيط في على امتداد الشواطئ الصحراوية، غير مشمولة بالسيادة المغربية، بل ما فتئت تطالب إسبانيا والأمم المتحدة القيام بمنع المغرب من إدراج الشواطئ الجنوبية ضمن اتفاق الصيد البحري بين الرباط وبروكسيل والذي يستفيد منه بالدرجة الأولى، أسطول الصيد في الأندلس.
وقام الانفصاليون بمساعي قضائية يائسة وفاشلة لدى المحكمة الأوروبية، أمام تشبث المغرب بحقوق السيادة على مجاله البحري.
إلا أن الفكر الملكي غير مسبوق، عزز اكثر من دور الديبلوماسية المغربية، حين أدرك المغرب أن التفاهم ممكن مع جارته اسبانيا، رغم كل التحديات أو العراقيل، التي من الممكن أن تؤخر الحسم في الحدود المائية، مع دولة بحرية عريقة مثل إسبانيا، لكنه مستحيل مع كيان وهمي اعتاد المروجون له ومساندوه،الاصطياد في المياه العكرة.
ويسجل متتبعون أن حرص الرباط ومدريد، لأسباب عملية ومصالح متداخلة، على معالجة ملف المياه الإقليمية بما يلزم من الهدوء،خاصة وأن تحريك ذات الملف يؤجج صراعات في الوقت الحاضر بين دول متجاورة في مناطق أخرى، خصوصا عندما كثر الحديث عن وجود ثروات في أعماق البحار، حركت شهية وأطماع بعض خصوم وأعداء المغرب، بما فيهم قوى خارجية عمدت إلى التدخل وزرع أشواك النزاعات، أمام مسيرة التنمية القائمة رحاها في اقاليمنا الجنوبية على قدم وساق.
لهذا يشدد جلالته أن مسلسل ترسيم الحدود البحرية للمغرب، “سيدعم المخطط، الرامي إلى تعزيز الدينامية الاقتصادية والاجتماعية” في الصحراء المغربية. لذا “وانطلاقا من هذه الرؤية، ستكون الواجهة الأطلسية، بجنوب المملكة، قبالة الصحراء المغربية، واجهة بحرية للتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي”. واوضح الملك وفقا لرؤيته الاستشرافية “فإضافة إلى ميناء طنجة -المتوسط، الذي يحتل مركز الصدارة، بين موانئ إفريقيا، سيساهم ميناء الداخلة الأطلسي، في تعزيز هذا التوجه، وسنواصل العمل على تطوير اقتصاد بحري حقيقي، بهذه الأقاليم العزيزة علينا؛ لما تتوفر عليه، في برها وبحرها، من موارد وإمكانات، كفيلة بجعلها جسرا وصلة وصل بين المغرب وعمقه الإفريقي”.
وفي هذا السياق، يشدد الملك على أنه “يتعين الاستثمار في المجالات البحرية، سواء تعلق الأمر بتحلية ماء البحر، أو بالطاقات المتجددة، عبر استغلال مولدات الطاقة الريحية، وطاقة التيارات البحرية، وبموازاة ذلك، يجب مواصلة النهوض بقطاع الصيد البحري، لدوره في النهوض باقتصاد المنطقة، وإعطاء دفعة جديدة، للمخطط الأزرق، تجعل منه دعامة استراتيجية، لتنشيط القطاع السياحي بها، وتحويلها إلى وجهة حقيقية للسياحة الشاطئية”.
حسب هذه الرؤية الملكية المستقبلية، فإن المغرب لن يتساهل مع أي تغيير للوضع القائم وإن تعبير العاهل المغربي، عن الحزم والتصدي معناه أن صبر الرباط لن يستمر طويلا في حالة عدم تحمل المينورسو والدول الكبرى لمسؤولياتها”، خصوصا وأن المغرب عازم على المضي قدما في خطته التنموية والاقتصادية، ولأنه يضع الدبلوماسية والسياسة والاقتصاد في المقدمة، مستبعدا الخيار العسكري، ومنتهجا لسياسة ضبط النفس، واستعداده الدائم للدفاع عن حوزة أراضيه.
لهذا نجدالملك محمد السادس يشدد في وقت نفسه، على أن المغرب سيظل ثابتا في مواقفه، ولن تؤثر عليه “الاستفزازات العقيمة، و”المناورات اليائسة” التي تقرع طبول الحرب في الكركرات، التي تقوم بها الأطراف الأخرى، والتي تعد مجرد هروب إلى الأمام، بعد سقوط أطروحاتها المتجاوزة.
إن الفكر الملكي الاستشرافي في قضية الصحراء، يجمع بين التاريخ والحاضر والمستقبل، لأن عين الديبلوماسية المغربية ماضية في مراقبة وتتبع التطور الحاصل على مستوى مجلس الأمم والأمم المتحدة حيث باتت مبادرة المغرب بالحكم الذاتي على خطوات قليلة لتكون الحل، وكمقاربة سياسية تكاد تكون الوحيدة التي تستجيب لتطلعات السكان للعيش بكرامة وإنسانية، وهو يؤكده اعتراف مجموعة من الدول بسيادة المغرب على الأقاليم الجنوبية من خلال فتح مجموعة من القنصليات وسحب مجموعة من الدول لسابق اعترافها بالبوليساريو، وبأهمية الاتفاقيات الاستراتيجية مع مجموعة من الدول الكبرى.
إن الخطاب الملكي الأخبر، يؤكد حسب المراقبين، أن الملك محمد السادس يكشف أن ترسيم الحدود له غايات اقتصادية وسياسية، ويأتي في إطار تفاهمات سياسية عبر التفاوض مع إسبانيا، وأن الرباط تراهن على كل المجالات البحرية والبرية في رفضها لأي استغلال للموارد خلف الجدار، في إشارة إلى إعلان البوليساريو عقد اتفاقات لاستغلال موارد المنطقة العازلة.
كما يحدد الملك وفقا لهذه الرؤية الاستراتيجية لملف الصحراء المغربية، أن للمغرب أولويات ذات حمولة استراتيجية كبيرة تتعلق بـ”تحلية مياه البحر” أو بالطاقات المتجددة، أو بقطاع الصيد البحري، أو مخطط أزور، أو بالدور الذي سيلعبه ميناء الداخلة الجديد في هذه الدينامية المستمرة على عدة مستويات، مع اتجاه المغرب إلى دمج الصحراء في عمقها الأفريقي في إشارة واضحة إلى أن الانتصار الدبلوماسي والسياسي المغربي ورهان الرباط على الشرعية الدولية يقفان على نفس المرتبة مع الاستمرار في الخيار التنموي مع الاستعداد للخيار العسكري إن اضطر إلى ذلك.
يشار إلى أنه في 4 من فبراير 2019، صادق مجلس المستشارين بحضور وزير الشؤون الخارجية والتعاون، بالإجماع على مشروعي قانونين، يسعيا إلى بسط الولاية القانونية للمغرب على كافة مجالاته البحرية الممتدة من مدينة طنجة شمالا إلى لكويرة جنوبا. وتمثل هذه الخطوة تحولا مهما في سياسة المغرب في تدبير مناطقه البحرية حيث عمل التشريع الجديد على تحديد حدوده البحرية لتشمل المياه والجرف القاري للصحراء، لتكتمل بذلك مسطرة التصديق التشريعي للمغرب في هذا المجال.
من هنا فترسيم الحدود البحرية، هو قرار سيادي، يدخل ضمن حرص المغرب على حماية مصالحه وضمان احترام السيادة على أراضيه ومياهه الوطنية، إلا أن نظرة معمقة لقرار ترسيم الحدود البحرية تظهر وجود أبعاد جيوسياسية أخرى غرب البحر المتوسط وفي المحيط الأطلسي وترتبط أساسا برغبة المغرب في تنمية أقاليمه الصحراوية متجاوزا حالة الجمود. فالفكر الملكي له دلالات عميقة، مرتبطة أساسا بدوافع جيوستراتيجية فإضافة إلى العامل السياسي، هناك عامل جيوسياسي يساعد على فهم قرار المغرب ترسيم حدوده البحرية، يتعلق بحالة الجمود التي يعيشها نزاع الصحراء في السنوات الأخيرة. فالجهود الأممية، لا سيما المائدتان المستديرتان المنعقدتان في مدينة جنيف السويسرية في شتنبر 2018 ومارس 2019، بدعوة من مبعوث الأمين العام السابق للأمم المتحدة في الصحراء “هورست كوهلر” لم تتمكن من تحريك المياه الراكدة حسب بعض المتتبعين. بالإضافة إلى ذلك، فإن دخول اتفاقيتي الصيد البحري والشراكة مع أوروبا حيز التنفيذ سنة 2019، شجع المغرب على التقدم خطوة للأمام في ترسيم حدوده البحرية، وكلاهما يدمجان المنتجات الفلاحية والصيد البحري في المناطق البحرية المقابلة لسواحل الاقاليم الجنوبية المغربية، وهو ما يعلي من شأن المقاربة الملكية وحرصها على ترسيم الحدود البحرية، حتى يبلغ القرار السيادي مداه ويحقق أهدافه ومراميه الجيوسياسية والاستراتيجية ويضمن مصالح العليا في حفظ سيادته على كافة أراضيه.