بقلم : ماجدة لعمش ، ناشطة أدبية مغربية
أفلت من رصاصة العدو فأصابته رصاصة كورونا ، وربما رصاصة ترديك قتيلا ، أهون بكثير من أن تقع رهن الاعتقال.
هكذا ظننت عندما ساقني قلمي إلى قبره هذا اليوم ، قبر الشهيد بإذن ربه { محمد المحفوظي}.
ففور سماعي بخبر وفاته جراء مضاعفات إصابته بفيروس كورونا دهشت ، بل موته وفقده علمني أدب النعي ، وأي نعي لأحد حماة هذا الوطن العزيز.
فجميعنا مقصرون في حق أمواتنا ، بل في حق تاريخنا ….
ومن يرى الاموات مجرد ذكريات وصور ومشاعر فهو مقصر …
ومن يرى أن التاريخ مجرد حكايات مسلية فهو مخطئ ، فكلاهما يتركان بصمة على الزمان والانسان ، وشهيدنا حظي بالثمرتين فصار رمزا من رموز (شجاعة الفداء ).
كان محمد المحفوظي ضابط صف في الهندسة العسكرية، قضى 24 سنة من الاعتقال بسجن”الرابوني” بعد اختطافه مع مجموعة من 12 فردا نواحي منطقة آسا الزاك سنة 1979 من طرف مرتزقة البوليساريو في كمين منمق الاركان … كان يعي تماما أن الجندي المقاتل يغادر بيته ولا يعلم إن كان سيجلس على مقعده ساعة الغذاء , أو سيظل الكرسى مفتقدًا صاحبه الذى راح فى مهمة قتالية. وهو ما قد حصل بالفعل . وفي «فقه الحرب» فإن المهمة القتالية هي أسمى أنواع التضحية ، نعم إنها تضحية بالروح ، والشهيد هو ذلك الشخص الذي يكتب بدمائه فصلًا فى كتاب الوطن . لقد كانت أربعا وعشرين سنه من عمر المحفوظي لإعدامات جماعية للاسرى وتجويع آخرين واستغلالهم في الاعمال الشاقة والمهينة ، وتسخيرهم كعبيد للعمل في مزارع قادة عصابات البوليساريو. أربع وعشرين سنه من التعذيب وبتر الاعضاء والحرق والصعقات الكهربائية. أربعة وعشرين سنة من مشاهد اغتصاب الفتيات وتشريد وسجن النساء ، في سجون انفرادية مع التعذيب والحرمان من النوم لمدد طويلة. أربع وعشرين سنه من سرقة المعونات الدولية والمتاجرة فيها واستفادة جنرالات الجزائر وعصابات البوليساريو من عائداتها…. هنا استفزتني يقظة السؤال : نعم كنت ومازلت أرى السؤال طريقا إلى الحقيقة ، «هز لواقع راكد» تم إخراجه من خدر الجمود ، هنا أسأل : هل ضاع عمر هؤلاء الجنود البواسل ؟! هل ذهبوا إلى الصحراء وهم في ريعان الشباب، واليوم تقدّم بهم العُمر فصاروا مشيبا في سجون العذاب ، فهل من أحد سيشد على أيديهم ويعوضهم إن منيوا بإطلاق سراح ؟! أيها القارئ المحترم ، السؤال ليس كلمات مرصوصة مذيلة بعلامة استفهام، السؤال ولو كان مرًّا هو شوق بالغ لحقيقة عرفها محمد المحفوظي بعد أن أفرج عنه وعاد إلى المغرب سنة 2003 …… فبعد كل الذي لاقاه من جحيم وأهواله في تندوف فاق أفلام الرعب في أميركا، صدم هذا الأخير بفتور الاستقبال ، وخجل الترحاب ، ونكران وخذلان وجحود ، مقابل معاش هزيل ومستقبل مجهول . إنه انغماس في معاناة جديدة عنوانها (التهميش والإهمال ) الذي طاله وطال كل الاسرى المغاربة في مخيمات العار ، الذين ذاقوا مرارَة التعذيب لسنوات طوال…. نعم لقد تخاذل كل من بيده وباستطاعته لملمة الجراح ، فهؤلاء هم الابطال الحقيقيين وهم الوحيدين الذين باستطاعتهم تحريك أوراق شجرة هذا الوطن العزيز للدفاع عنه ، فالجندي تسعده الشهادة قبل ان يفكر في النصر … فأين الإعلام ، أين الأقلام ، بل أين الدولة أوليسوا أبناءها الابرار ؟!!! مات المحفوظي دون أي كلمة وجواب شاف لتضحياته ، لسنواته التي تزاحمت فيها الساعات والدقائق والثواني لتسرد مشهدا من مشاهد الرعب . مات المحفوظي وهو مدرك ومؤمن بالرغم من اللامبالاة أنه بالرغم من كل شيء، ما زلْنا مستعدّين لحمْل السلاح ودحْر أعداء الوطن ، انذاك كلما جمعتني به نقاشاتنا حول النضال والكفاح والسياسة والديموقراطية وشؤون العالم الى غيرها من المواضيع ….. لا زلت أتذكره والدموع تسابقني عندما يمر شريط الذكريات ، تلك اللقاءات التي لم يكن يفوت فيها فرصة الحديث والسرد عن تجربته وأهدافها السامية ….. مات المحفوظي جراء إصابته بكورونا ولم ينل منية الشهادة في حربه ضد أعداء الوطن . لكنه مني بشهادة الاعتراف وحب وتقدير الجميع ، واحترام الوطن له ، وليعلم أنه حفر اسمه بدمه في كتاب الكفاح الى جانب كتاب الوطنية .. وأنه باق لن يموت . محمد المحفوظي خلاصة شهيد في سبيل الوطن وخلاصة شاهد عيان على مخيم الجحيم ….
ثروة وتاريخ على الجميع أن يبادر بزف أسماء الشهداء والأسر العائدين في جميع المحافل الاعلامية والثقافية والادبية والسياسية …
فلترقد روحك بسلام يا رفيقي وصديقي وجندي الفداء….
بعد رحيلك علمتني آداب الفقد وما أندر دروس الاموات …