من المؤكد أن الذكرى 23 لعيد العرش المجيد تأتي هذه السنة في ظل ظرفية اقتصادية واجتماعية عالمية استثنائية، تتميز بارتفاع غير مسبوق في أسعار النفط وزيادة معدلات التضخم وأجواء جيواستراتيجية مشحونة عنوانها هذا الصراع المفتوح اليوم بين الدول الغربية وروسيا. ووسط هذا السياق الدولي الملتهب تبحر سفينة المغرب بهدوء كعادتها نحو الضفاف الآمنة تشق طريقها في التنمية والبناء والتطوير على الرغم من كل الإكراهات التي تواجهها. فعلى مدى 23 عاما من حكم الملك محمد السادس اجتاز المغرب الكثير من المحطات الصعبة وفتح الكثير من الملفات الساخنة، ونجح باستمرار في ضمان استمرار الاستثناء المغربي المعتز باستقرار سياسي وأمني منقطع النظير وتلاحم وطني حول ثوابت المملكة.
23 عاما من التدبير الملكي الرصين الذي بدأ بتصفية تركة الماضي عبر حسم الملف الحقوقي بالتقرير الشهير لهيئة الإنصاف والمصالحة، ثم تعزّز بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي راكمت الكثير من النجاحات في مجال خلق فرص الشغل والدخل القار للفئات المهمشة، ووصل إلى إقرار دستور 2011 الذي يعد نقلة نوعية في مسار التطور السياسي للمغرب وتأهيل مؤسساته وأنظمة حكامته. هذه المحطات الثلاثة تلخص أبعاد المسيرة الملكية على مدى العقدين الأخيرين التي وضعت أسسا اجتماعية وحقوقية وسياسية قبل أن تبدأ في إطلاق الورش الاقتصادي الكبير الذي راهن على تنويع أنشطة الاقتصاد الوطني وإخراجه من الارتهان لقطاع الفلاحة والمعادن إلى آفاق الصناعة والخدمات. إنها رؤية ملكية ثاقبة اخترقت السنوات الأولى من الألفية الثالثة لتتنبأ بانتظارات المغاربة بعد عشرين عاما.
وفي هذا الإطار كان إطلاق مشروع ميناء طنجة المتوسط سنة 2002 باستثماره المالي الضخم ورهاناته الهائلة يكاد يمثل معجزة حقيقية في نظر الكثيرين، بل إن الجيران في إسبانيا كانوا يعتبرون هذا المشروع عند إطلاقه مغامرة مالية حقيقية بالنسبة للمغرب. وما كادت السنوات الأولى من بدء تشغيل هذا الميناء تمرّ حتى تبيّن عمق الرؤية الملكية التي حوّلت طنجة وما حولها إلى قطب اقتصادي وصناعي هائل ينافس أكبر الموانئ العالمية، ويستقطب أكبر المقاولات الدولية المختصة في تصنيع السيارات وقطع غيارها. لقد مثّل هذا الورش في الحقيقة صلب الإرادة الملكية التي تريد أن تنقل الاقتصاد الوطني من الاعتماد الكامل على تصدير المواد الخام إلى اقتصاد منتج يقدم القيمة المضافة المذرة للعملة الصعبة.
وتكرّرت التجربة ذاتها في أوراش ضخمة تحوّلت اليوم بفضل الرؤية الملكية إلى روافد هامة للنمو الاقتصادي والحركية السياحية والتجارية. فربط مدينة طنجة والدار البيضاء بالقطار الفائق السرعة البراق، كان في نظرنا حلما يتحول إلى حقيقة، لكنه كان في منظور الرؤية الملكية حقيقة واضحة منذ البداية تراهن على تأهيل المغرب وتطوير بنياته التحتية ليواكب التقدم الذي تعرفه بلدان العالم في مجال المواصلات ويساهم في دينامية استقطاب الاستثمارات والسياح إلى هذين القطبين الحضريين الكبيرين. ومثلما وقف الملك محمد السادس حريصا على تنمية القطب الشمالي والغربي للمغرب، ها هي ذي الأقاليم الجنوبية والوسطى للمملكة تعيش على إيقاع مسار تنموي مشابه.
فقد أعلن الملك محمد السادس في خطاب إلى الأمة بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين للمسيرة الخضراء المظفرة سنة 2020 عن أبعاد ورش الاقتصاد الأطلسي للمغرب الذي سيمثل واجهة من واجهات التكامل والإشعاع القاري والدولي، وسيكون في قلبها مشروع ضخم بحجم ميناء طنجة المتوسط يتعلق الأمر هنا بميناء الداخلة الأطلسي. وفتح توقيع اتفاقية بناء الميناء المذكور سنة 2016 آفاقا هائلة أمام تطوير اقتصاد بحري منتج يساهم في خلق الثروة بالأقاليم الجنوبية للمملكة. واليوم يشرع المغرب في إطلاق الدراسات الخاصة بتمديد خط القطار الفائق السرعة باتجاه مدينة أكادير التي اعتبرها الملك محمد السادس الوسط الحقيقي للمغرب، بينما يتواصل برنامج التأهيل الحضري والصناعي لهذه الحاضرة السياحية الكبيرة.
إن انتشار أوراش وبرامج التنمية الاقتصادية والصناعية اليوم على امتداد خارطة المغرب يعكس هذه الرؤية الملكية الثاقبة التي تبلورت في بداية الألفية الثالثة، وراهنت على تدبير مقدّرات المغرب من أجل خلق دينامية جديدة في بلدنا الذي لا يعد أصلا من البلدان التي تمتلك موارد طبيعية ريعية هائلة كالنفط والغاز. وعلى الرغم من غياب هذه الموارد فإن النجاحات التي تم تحقيقها تبدو هائلة في مجالات اقتصادية أصبح المغرب رائدا فيها كصناعة السيارات وقطع غيار الطائرات، وكذا في قطاع الطاقة كما هو الحال بالنسبة لإنتاج الطاقة الشمسية.
وحتى يكتمل عقد المنجزات الاقتصادية بتحصين المكاسب الاجتماعية، كان جلالة الملك محمد السادس حريصا على إطلاق ورش اجتماعي هائل، قد يعد دون مبالغة أكبر ورش من هذا النوع منذ استقلال المغرب، ويتعلق الأمر بتعميم الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية. لقد تفاعل النظر الملكي بشكل سريع وفعال مع تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد ليقدم أجوبة جذرية ونهائية، ستساعد 20 مليون مواطن مغربي من الاستفادة من أنظمة الرعاية الصحية المجانية ونظام الحماية الاجتماعية سواء بالنسبة للفئات المهنية أو الفئات الاجتماعية الهشة والفقيرة. وهو ورش ستخصص له ميزانية سنوية تقدر بـ51 مليار درهم في أفق 2025.
إن العنوان الرئيسي للثلاث وعشرين سنة التي قضاها الملك محمد السادس في الحكم هو “مغرب الأوراش المفتوحة” التي انطلقت بشكل متوازٍ لتسد الاختلالات وتغطي العجز وتستجيب لانتظارات المغاربة في شتّى المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، وتؤهل بلادنا كي تصبح اليوم من أكثر بلدان المنطقة والقارة الإفريقية استقطابا للاستثمارات وجاذبية لرؤوس الأموال والمشاريع الكبرى.