أحمد نور الدين ، خبير في العلاقات المغربية الجزائرية
الحديث عن حصيلة 23 عاما من المنجزات في مجال الدبلوماسية الملكية، يستلزم دون مبالغة أكثر من مجلد، لأننا أمام مرحلة تميزت بدينامية خلاقة، خلخلت الكثير من المسلمات، وكسرت العديد من الطابوهات، وأرست خطوة خطوة، في حكمة واتزان ودون بهرجة او استعجال، دعائم سياسة خارجية قوية أعادت للمملكة مكانتها المرموقة بين الأمم.
ويمكن أن أزعم بأن أبرز معالم تلك السياسة الخارجية هي اولا إرساء سياسة إفريقية ثنائية استغرقت حوالي عقدين من الزمن، أعطى فيها المغرب النموذج لما ينبغي أن يكون عليه التعاون المثالي جنوب جنوب، من خلال أزيد من 50 زيارة رسمية قادت العاهل المغربي إلى الجهات الاربع في القارة السمراء، وقع خلالها ازيد من ألف معاهدة واتفاقية، وتمخضت عنها مشاريع مشتركة حقيقية وذات قيمة مضافة عالية في كل القطاعات الانتاجية، حيث اصبحت المملكة ثاني اكبر مستثمر إفريقي في القارة من خلال تواجد ازيد من 600 شركة مغربية في كل المجالات، وهو توجه ترجم ثقة المغرب في إفريقيا وبادلته إفريقيا بالثقة في المغرب. بعد ذلك أطلق العاهل المغربي مرحلة ثانية خلال الخمس سنوات الاخيرة تميزت بالتعاون الافريقي متعدد الأطراف من خلال قرار العودة إلى البيت الافريقي واستعادة مكانته المغرب الطبيعية داخل المنظمة الإفريقية، وقد تميزت هي الاخرى بإنجازات كبيرة في فترة وجيزة كان من أبرزها منح المغرب في شخص العاهل المغربي درع الريادة الافريقية في الهجرة، واستضافة المغرب العديد من المؤسسات الافريقية المرموقة مثل المرصد الافريقي للهجرة او المكتب الإقليمي للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب على صعيد القارة، او صندوق إفريقيا50 للاستثمارات، وغيرها من المؤسسات المرموقة في مختلف الميادين. وقد بدأت تؤتي هذه السياسة الافريقية ثمارها من خلال افتتاح حوالي 20 دولة افريقية قنصليات لها في الصحراء المغربية، ومن خلال كسر محور الشر المعادي للوحدة الترابية للمملكة حيث اصبحت نيجيريا شريكا استراتيجيا للرباط، بعد أن كانت ابوجا تشكل ثالث ضلع في مثلث معادي مع جنوب افريقيا والجزائر. وكذلك الشأن بالنسبة لأثيوبيا التي اغلقت سفارتها في الجزائر وابقت على سفارتها في الرباط، بالإضافة إلى خروج الجزائر من مجلس السلم والأمن الإفريقي الذي ظلت تحتكر رئاسته منذ إنشائه، وانتخاب المغرب لفترتين متتاليتين عضوا داخل نفس المجلس، دون أن ننسى سحب العديد من الدول اعترافاتها بالكيان الوهمي في تندوف، وأصبح الأغلبية الساحقة، 43 دولة من أصل 54 دولة داخل الاتحاد الإفريقي لا تعترف بالكيان الذي اصطنعته الجزائر.
وهي تحولات لا بد انها ستؤدي إلى تصحيح الخطأ التاريخي كما اسماه العاهل المغربي، أعني خطأ قبول المنظمة الافريقية انضمام ذلك الكيان دون أن تتوفر فيه الشروط القانونية لميثاق الوحدة الإفريقية آنذاك، واكيد ان تصحيح الخطأ سيتم من خلال طرده في الفترة المقبلة وعلى المدى المنظور.
المعلم الثاني الابرز في السياسة الخارجية، يتمثل في النقلة الاستراتيجية، اذا استعملنا لغة “لعبة الشطرنج”، والمتمثلة في الاعتراف الامريكي بمغربية الصحراء وسيادة المغرب على كل اقاليمه الجنوبية التي تسمى بالصحراء الغربية، وقد صدر القرار في الجريدة الرسمية الامريكية، او ما يطلق عليه السجل الفدرالي، ووزع كوثيقة رسمية على اعضاء مجلس الامن الدولي بالأمم المتحدة، ولم تفلح اللوبيات المضادة للمغرب التي يمولها بسخاء البترودولار الجزائري، لم تفلح في تغيير موقف الادارة الديمقراطية للبيت الابيض، وهو نجاح ثاني للمغرب وصفعة لمن كان يتوسم تغيير الموقف الامريكي بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الابيض رغم حجم الضغوطات الرهيبة.
المعلم الثالث، هو التغير الاستراتيجي في الموقف الاسباني، الذي أعقب ازمة بين البلدين، حولها الطرفان إلى فرصة لمراجعة المواقف الثنائية من العلاقات بين المملكتين، وقد أدت المفاوضات المعمقة تحت إشراف مباشر للملك محمد السادس ورئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، أدت إلى دعم إسباني واضح لموقف المغرب في الصحراء، بل أن الرسالة التي بعث بها رئيس الحكومة الإسبانية تحدثت عن دعم سيادة المغرب وهو اعتراف بسيادة المغرب على صحرائه بشكل لا يقبل التأويل. وهو ما أدى إلى سحب السفير الجزائري من إسبانيا وإلى تدهور في العلاقات التجارية بين الجزائر ومدريد، وإغلاق أنبوب الغاز وتهديد بمراجعة اسعار الغاز، وتوقيف للمعاملات البنكية، وغيرها من الإجراءات المتشنجة للنظام الجزائري، وبذلك يكون المغرب قد ضرب عدة عصافير بحجر واحد كسب موقفا اسبانيا يصحح الخطأ التاريخي لهذا البلد الذي كان وراء خلق مشكلة الصحراء، وحطم تحالف الشر بين الجزائر ومدريد ضد المغرب، وفضح النظام الجزائري أنه هو خصم المغرب الوحيد المعادي لوحدته الترابية وان الجبهة الانفصالية مجرد ورقة بيد جنرالات الجزائر. وكلها انتصارات للدبلوماسية الملكية.
ولم تكن إسبانيا هي الوحيدة في هذا النهج بل كانت هناك مواقف أوربية مساندة لموقف المغرب ولمقترحه بإنهاء النزاع في الصحراء، ومنها ألمانيا وهولندا وغيرهما بالإضافة إلى دعم الاتحاد الاوربي للموقف الاسباني في مواجهة التصعيد الجزائري.
المعلم الرابع، هو نجاح المغرب في كسب التعاطف الدولي مع قضيته الوطنية وتوسيع دائرة الأصدقاء والمؤيدين، وفي نفس الوقت تكريس عزلة النظام العسكري الجزائري، وقد تبين ذلك بجلاء في عدة مناسبات نذكر منها نجاح المغرب في تطهير معبر الكركرات يوم 13نوتبر 2020 في عملية استغرقت بضع ساعات فقط ابانت فيها القوات المسلحة الملكية عن علو كعبها وتفوقها عسكريا واستخباراتيا، ولم تسجل اي دولة عبر العالم اعتراضها او ادانتها باستثناء الجزائر، فظهرت عزلتها المطلقة إذ لم تساندها حتى جنوب افريقيا او دول الموز التي تعترف بجمهورية تندوف الوهمية. والمناسبة الثانية التي كرست عزلة الجزائر هي مناسبة التصويت على قرار مجلس الامن 2602 الأخير في أكتوبر 2021، حيث لم تمتنع عن التصويت غير روسيا، لاعتبارات جيوسياسية مع غريمتها واشنطن، وتونس بسبب وعد من الجزائر بإقراضها 300 مليون دولار، في نهج سافر لدبلوماسية الابتزاز التي تمارسها الجزائر منذ عقود في قضية الصحراء.
هذه مجرد معالم على طريق الحصيلة الغنية في دبلوماسية جلالة الملك محمد السادس خلال العقدين الماضيين، وإلا فهناك ما يملأ مجلدا كاملا.