مرة أخرى عاد الملك محمد السادس يوم أمس السبت ليجدد دعوته لأصحاب القرار في الجزائر لإعادة العلاقة بين البلدين، خاصة “أن الحدود، التي تفرق بين الشعبين الشقيقين، المغربي والجزائري، لن تكون أبدا، حدودا تغلق أجواء التواصل والتفاهم بينهما”، وفق كلام الملك في خطاب موجه للشعب المغربي بمناسبة الذكرى الثالثة والعشرين لاعتلائه عرش المملكة المغربية.
الملك محمد السادس سبق أن وجه نفس الدعوة العام الماضي في إحدى خطاباته، لكن الدعوة الأولى لم تلق أي تجاوب من الرئاسة الجزائرية، وهذه المرة لا يُعرف ما إذا كان النظام الجزائري سيواصل تجاهله لليد الممدودة التي يقدمها المغرب، أم سيكون له موقف آخر هذه المرة.
هذه الخطوة الجديدة من الملك محمد السادس، لقيت صدا وترحيبا من طرف العديد من الأطراف العربية، وتفاعل معها بشكل إيجابي العديد من المحللين والمتتبعين للعلاقات المغربية والجزائرية وتأثيرها على المنطقة، وهي خطوة وُصفت بـ”الشجاعة” وتجسيدا للنهج الذي سار عليه عدد من السلاطين العلويين المغاربة في تعاملهم مع الجار الجزائري.
فأغلب السلاطين الذين حكموا المغرب في القرون الأخيرة، كانت نظرتهم إلى الشعب الجزائري وبلاد الجزائر نظرة أخوية مصحوبة بالعديد من المواقف والمظاهر التضامنية، وبالتالي فإن الملك محمد السادس كان يعني ما يقول عندما قال في خطابه أمس “أهيب بالمغاربة، لمواصلة التحلي بقيم الأخوة والتضامن، وحسن الجوار، التي تربطنا بأشقائنا الجزائريين؛ الذين نؤكد لهم بأنهم سيجدون دائما، المغرب والمغاربة إلى جانبهم، في كل الظروف والأحوال.”
السلطان محمد بن عبد الله (محمد الثالث)
ويُمكن الإشارة إلى بعض أمثلة هذا التضامن الأخوي، مع 3 سلاطيين علويين بارزين، أولهم السلطان محمد بن عبد الله (محمد الثالث) الذي حكم المغرب ما بين 1757م إلى غاية وفاته في سنة 1790م، حيث له موقف تاريخي مشرف، عندما بعث بوفد ديبلوماسي إلى ملك إسبانيا كرلوس الثالث في سنة 1779م من أجل إطلاق سراح 1200 أسير جزائري كانوا مسجونين في السجون الإسبانية.
وكانت النزعة الدينية للسلطان محمد الثالث وغيرته على أشقائه الجزائريين وراء هذه البعثة الدبلوماسية المغربية إلى الجزائر، في ظل تقاعس العثمانيين الذين كانوا يحكمون الجزائر عن افتكاك الأسرى الجزائريين من إسبانيا.
السلطان عبد الرحمان بن هشام
موقف آخر لسلطان علوي آخر مع الأشقاء الجزائريين يتعلق بالسلطان عبد الرحمان بن هشام الذي حكم المغرب ما بين 1822م و1859م، عندما أصدر قرارا لاستقبال واحتضان الجزائريين الذين هاجروا من ديارهم بعد احتلال القوات الفرنسية للأراضي الجزائرية، حيث توافد على المغرب الآلاف منهم في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
ولازالت بعض الكتابات التاريخية لجزائريين حلوا بالمغرب يذكرون فيها حسن استقبال المغاربة لهم، وأوامر السلطان باحتضانهم، حيث لازالت مراسلة سلطانية تؤرخ لهذا التضامن جاء فيها قول السلطان المغربي “إن أهل الجزائر ناس غرباء أخرجهم العدو الكافر من أرضهم ووطنهم والتجؤوا إلى إيالتنا واستظلوا بظل عنايتنا، فينبغي لنا أن نؤنس وحشتهم ونعاملهم بما ينسيهم غربتهم لأنهم إخواننا في الدين”.
السلطان محمد الخامس
إذا كان السلطان المغربي عبد الرحمان بن هشام احتضن الجزائريين بعد استعمار بلادهم من طرف فرنسا، فإن السلطان محمد الخامس من أبرز القادة العرب والمسلمين الذين دافعوا عن حصول الجزائر على الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، ودعم المقاومة الجزائرية ماديا ومعنويا.
ومن بين أمثلة دعم السلطان محمد الخامس للجزائر، وهو مثال لازال موثقا بالصوت والصورة، يتعلق الأمر بخطابه التاريخي التاريخي الذي قدمه في أروقة الجمعية للأمم المتحدة بمدينة نيويورك الأمريكية، في 9 دجنبر 1957، عندما أعرب عن ألمه الشديد مما يجري على أرض الجزائر الشقيقة من اتساع نطاق المعارك وإراقة الدماء، وطالب الأطراف المعنية بضرورة التفاوض وحق الجزائر في تقرير مصيرها والحصول على استقلالال.
ويُعتبر هذا الخطاب تاريخيا، على اعتبار أن السلطان محمد الخامس كان أول زعيم عربي يُقدمه خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة باللغة العربية، بخلاف ما روجت له بعض المنابر الإعلامية المصرية والعربية، والتي تتحدث عن أن جمال عبد الناصر أول ملقٍ لخطاب بالعربية في الأمم المتحدة، حيث أن الزعيم المصري قدم خطابه في أكتوبر 1960، أي 3 سنوات بعد السلطان محمد الخامس وليس قبله.
وكان السلطان محمد الخامس، يعتبر أن الجزائر هي بلاد شقيقة وشعبها شعب شقيق للمغرب، ولا يُمكن للمغرب أن يهنأ إلا بعد أن يرى الجزائر حرة مستقلة، ضاربا أمثلة على قيم التضامن والأخوة مع الجزائر، وهي أمثلة لازالت راسخة إلى اليوم.