هكذا قالت انجيلا ميركل : على كل شخص في أوروبا أن يخاف جداً مما ستكون عليه الحياة بعد «الأم». قد تُجادل بأنها تسببت في حدوث ذلك، منذ قرارها الشجاع والمبني على المبادئ بالسماح لنحو مليون من طالبي اللجوء، من بينهم الفارّون من الحرب في سوريا، بالدخول إلى ألمانيا. لم يهمها كم كانت ألمانيا ضعيفة ومنقسمة وتتعاقب عليها حكومات متذبذبة في مشهد مبنيّ على تغيير الولاءات، بالإضافة إلى تواجد برلماني متزايد لأحزاب اليمين المتطرف (أتمنى ألا أكون مثيراً للذعر بشكل كبير). يجب أن نتذكر كذلك أن ألمانيا هي قوة القارة الاقتصادية والصناعية الوحيدة ذات المكانة العالمية. قوة عظيمة دائماً، لكننا على الأرجح اعتبرنا استقرارها الضعيف أمر مسلم به لوقت أطول من اللازم. إذا سقطت ميركل، وخرج حزب البديل من أجل ألمانيا -حزب قومي مؤذٍ- قوياً بعد المنازعات الحادة، فلا محالة ستقع ثلاثة أمور: أولاً: عدم احترام ما استطاعت الوصول إليه في سبيل تحقيق «صفقة» أوروبية بشأن الهجرة. في الواقع، ستكون الانتخابات الجديدة بمثابة استفتاء حول هذه الصفقة. ثانياً: رفض -مدعوم بوضوح بالاستحالة المالية- إنقاذ إيطاليا. إذ تعد بنوك الدولة والحكومة نفسها مفلسين. والآن، في دولة استولى عليها اليمين المتطرف، يهدد الإيطاليون بطباعة نسخة خاصة بهم من اليورو -سندات خزانة إيطالية مصغرة بقيمة اسمية منخفضة تصل إلى 10 يورو من الممكن أن تستخدم كعملة قانونية أو كتمويل لحسابات بنكية- ما يعتبر مراوغة واضحة لتجنب ضوابط البنك المركزي الأوروبي. تعد إيطاليا ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، ويتجاوز دعمها حتى إمكانيات الألمان، إن أرادوا ذلك، وهو ما لا يريدونه. عاجلاً أو آجلاً، ستخرج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي لأن إيطاليا كبيرة جداً اقتصادياً كي تُنقذ (على عكس اليونان الصغيرة)، ولأن حكومة إيطاليا والكثير من شعبها يتمنون حدوث ذلك. يمكن لهذا الأمر أن يُسقط العملة الموحدة الأوروبية بالكامل. ثالثاً: سيكون هناك موقف ألماني متشكك بشكل عام تجاه التكامل الأوروبي، جنباً إلى جنب مع ما ينادي به الرئيس الفرنسي ماكرون، وهو ما سينتج عنه بالتالي، ضعف في العمود الفقري للاتحاد الأوروبي، محور باريس-برلين. يسير الاتحاد الأوروبي والمساعدات المتأهبة من الأوروبيين الشرقيين، والهولنديين، والنمساويين والدول الإسكندنافية لإيطاليا، تجاه تحول الاتحاد الأوروبي لقوة أكثر مرونة وأقل تماسكاً، هذا مع التغاضي المحسوب من الرئيس الفرنسي (إذ يحتاج ماكرون كذلك لمراقبة سياساته)، -وهو الأمر الذي سيثير سعادة الإيطاليين-. عندما يحدث ذلك، سيتم التخلي عن قوانين حرية الحركة في الاتحاد الأوروبي، وستشهد اتفاقية شنغن بشأن الحدود الحرة تعديلات جذرية. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيعتبر أمراً جانبياً مقارنةً بألمانيا المتشككة حول الاتحاد الأوروبي. سخرية القدر تكمن في أن إصلاح الاتحاد الأوروبي ليناسب ما أرادته بريطانيا سيأتي بعد خروج المملكة المتحدة منه بفترة قصيرة. يُقال أحياناً إن تهديد زعيم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CSU)، ووزير الداخلية هورست سيهوفر بالاستقالة من حكومة ميركل، نوع من المشاكسات الروتينية بين أطراف التحالف، يشبه النزاعات المعتادة من حين لآخر بين رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون ونائبه نيك كليغ. ومع ذلك، يبدو أن هذه الأزمة أعمق بكثير وأكثر أهمية، بل قد تكون أثارها مُزلزلة؛ إذ تتجاوز مجرد سقوط حكومة ميركل ونهاية المسار السياسي الطويل للمستشارة الألمانية، وهذا أمر بالغ الأهمية. السبب في ذلك يكمن في أن الاتحاد الاجتماعي المسيحي يُعد الحزب «الشقيق» لحزب ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، ما سيقوّض، في الواقع، الرابطة الوثيقة بينهما. ويشبه الحزبان التوأم، إن لم تكن العلاقة بينها تتجاوز الصلة التي تربط التوائم الملتصقة. فلقد كان الاتحاد الاجتماعي CSU، حتى وإن كان منفصلاً من الناحية الفنية عن الاتحاد الديمقراطي (CDU) معظم فترة نشاطه كحزب منذ الحرب العالمية الثانية، بمثابة نوعٍ من التفرعات الإقليمية لحزب CDU يزاول نشاطه في بافاريا، بينما يعمل الاتحاد الديمقراطي المسيحي في أماكن أخرى من ألمانيا، وقد عمل الحزبان دائمًا بالتشاور الوثيق على المستوى الفيدرالي. لم ينجح حزب CSU في الفوز بمنصب المستشار الفيدرالي، لكنه وضع مرشحين نيابة عن «اتحاد» DU-CSU، وقدم، على الدوام، سياسيين من الوزن الثقل إلى إدارات اتحاد CDU-CSU. وقد اتفق عادة جناحي «الديمقراطية المسيحية الألمانية» بشكل عام، على مفهوم «اقتصاد السوق الاجتماعي»، وإن كان CSU يبدو أكثر «كاثوليكية» من الناحية الثقافية ومحافظاً اجتماعياً (تم التأكيد على ذلك مؤخراً)، و يمثل ما يُعد أحد أغنى مناطق ألمانيا، أو العالم في هذا الصدد. وصحيحٌ أيضاً أن بافاريا كانت على «خط المواجهة» أثناء أزمة الهجرة وتدفق القادمين إليها من الجنوب. ويشعر البافاريون الأغنياء – الذين تعد منطقتهم موطناً لسيارات BMW، وAudi، والعلامات التجارية الكبرى مثل Infineon وPuma، بالإضافة إلى بعض مصانع الجعة الراقية – بالاستياء من دفع مبالغ ضخمة لإنقاذ دول مثل اليونان. وتتباين المصالح الإقليمية البافارية بشكل أكبر مع المصالح الألمانية الاتحادية. وهنا تكمن الهوة بينهما. ويشكل ذلك كله جزءاً من انشقاق يعاني منه نسيج نظام الأحزاب في ألمانيا، مع حزب الخضر، والديمقراطيين الأحرار أو الحزب الديمقراطي الحر (يتألف في الوقت الحاضر من مجموعة شبه ثاتشرية وليبرالية اجتماعياً) والشيوعيين السابقين («اليسار») الممثلين في البوندستاغ (البرلمان الألماني) الُمحتكر من طرف CDU / CSU والديمقراطيين الاشتراكيين، والحزب الديمقراطي الحر، شريك الائتلاف، المفيد والمتعاون عادة مع هذا الطرف أو ذاك. لم يكن النظام الانتخابي الألماني مصمماً لاستيعاب مثل هذا المزيج المتداخل والمزدحم، كما هو عليه اليوم، ما يُظهر الآن التوتر من حالة الشلل الناتجة عن هذا الوضع. ألمانيا ليست، اليوم، في وضع يمكنها من «قيادة» أوروبا، ولا تملك رغبة كبيرة في ذلك. وهذا أمرٌ سيئٌ. ما يحدث في ألمانيا، اليوم، يحدث في جميع أنحاء أوروبا منذ سنوات، وإن كان غطى عليه انتصار إيمانويل ماكرون في فرنسا واستمرار أنجيلا ميركل في السلطة في ألمانيا. يتواجد اليمين المتطرف، أو اليمين الشعبوي، أو اليمين النازي الجديد، أو اليمين المحافظ، أو بعبارة أخرى، اليمين بمختلف نكهاته القومية، في الحكومة، سواء بمفردهم أو داخل ائتلافات، في سلوفينيا (حديثاً)، وفي النمسا، وفي إيطاليا، وفي المجر، في بولندا وجمهورية التشيك وبلغاريا. وتقترب هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة بشكل كبير من مراكز النفوذ في السلطة، مثلما هو الحال في هولندا والدنمارك وفنلندا وفرنسا، ويدفعون ببطء لترسيخ وجودهم في ألمانيا والسويد. ويبدو أنهم تعرضوا للهزيمة في سلوفاكيا وحدها، أما في اليونان وإسبانيا، حقق أقصى اليسار الشعبوي استفادةً قصوى من مناخ الأزمة. ففي جميع أنحاء أوروبا، تعرض الاتجاه الديمقراطي الاجتماعي لموتٍ بطيءٍ مثيرٍ للشفقة. والآن صارت الديمقراطية المسيحية – التي يصفها البريطانيون على أنها محافظة معتدلة – تعاني من نفس المصير. يرى الكثير من المحافظين أن الطريق الأسهل للوصول إلى السلطة يكمن في التنسيق والتحالفات مع أقصى اليمين، بدلاً من المجموعات الوسطية من «التحالفات الكبرى» مع الديمقراطيين الاجتماعيين. ويعتبر هذا التوجه أمراً مرعباً، يمثل فيه Brexit واتفاق المحافظين مع حزب DUP وصعود Corbynism، النسخة البريطانية النظيرة للقصة بنطاقها الأوسع. ومع انسحاب أميركا من منظومة الدفاع الأوروبي، والتوسع العدواني الروسي، والحروب التجارية و«المشروع الأوروبي» المتعثر – بل والأهم من ذلك كله، وجود ألمانيا ضعيفة ومنطوية سياسياً – تعِد عشرينيات هذا القرن، بأنها ستكون سنوات عاصفة لِقارتنا. فالغُيوم قاتمةٌ، ويُمكننا مُشاهدتها، إذا تجرأنا النظر باتجاهها.