تعيش الأوراق في الشرق الأوسط أكثر مما يعيش البشر. فقد قتل السادات، وبيغن فقد المقدرة، ولكن الاتفاق الذي وقعاه في كامب ديفيد نجا من حربين في لبنان وثورتين في مصر ونار في غزة، ولا يزال باقياً؛ الملك حسين توفي قبل أوانه، ورابين قتل، والملك عبد الله غير مستعد للالتقاء برئيس وزراء إسرائيل، ولكن الاتفاق الذي وقع عليه أبوه ساري المفعول وينفذ بعناية على ضفتي النهر. وحتى اتفاق أوسلو البائس، الذي يحتقر لدى الطرفين، يواصل الصمود، إن لم يكن كخطة عمل، فككرة تركل، وكذريعة يتعلقون بها.
كما أن النجاة الأكثر تأثيراً هي نجاة اتفاق سايكس بيكو، ورقة كتبها قبل 104 سنوات موظفان استعماريان مغروران، غريبان عن الشعوب التي تعيش هنا، عن الثقافة، عن الجغرافيا. فقد رسم الاتفاق بيد فظة، وبإهمال وبجهل حدود الدول في الشرق الأوسط. وقد نجا من كل ثورات العالم العربي. وفي هذه الأثناء لا بديل له.
سيكون هذا مصير الاتفاق الذي وقع يوم الثلاثاء في الساحة الجنوبية للبيت الأبيض، وسيبقى بعد سنوات حكم ترامب، ونتنياهو، ومحمد بن زايد حاكم الإمارات، والملك حمد من البحرين. الأوراق تخلق واقعاً: الأحرف الصغيرة تنسى ويبقى الإطار. فالاحترام للأوراق.
أحد قدامى طريق السلام الأمريكي جاء إلى الاحتفال، لم يدعه الأمريكيون ولا الإسرائيليون؛ بل دعاه الإماراتيون. وقد جاء بسرور: قسم كبير من حياته كرسه لدفع السلام إلى الأمن بين إسرائيل والعالم العربي. كل خطوة تتم في هذا الاتجاه، تفرحه. ولكن الفرحة هذه المرة كانت مختلفة. “لم يكن بوسعي ألا أفكر بالسادات وبيغن، والحسين ورابين، وعرفات ورابين”، قال، وتابع: “لم يكن هذا هو الأمر ذاته”.
لقد وجد صعوبة في إيجاد الكلمات الصحيحة. عندما شاهدت احتفال التوقيع، قلت له، اعتقدت أني أشاهد صفقة تجارية ناجحة: يوجد رضى، لا يوجد نقاء روحي. وبالأساس، لا يوجد ألم، لا يوجد دم، لا توجد مأساة، لا توجد رواسب داخلية. فخليط الحرب والثكل في خطاب نتنياهو كان زائداً. ثمة محاولة فاشلة لتشبيه نفسه ببيغن ورابين.
نعم، قال. الصفقة قد تكون الكلمة الصحيحة.
في الصفوف العشرة الأولى، روى، جلس الطاقم الأول الأمريكي: وزراء، موظفون كبار، سناتورات جمهوريون. أما سناتورات الديمقراطيون فلم نرَهم. كما لم نرَ عرباً أمريكيين، بخلاف الاحتفالات إياها. وفي الخلف جلس اليهود المعروفون، أولئك الذين يكون اتصالهم الوحيد بالواقع في الشرق الأوسط التواجد في الاحتفالات. برز بينهم اليهود الجمهوريون، يهود ترامب.
ترامب ونتنياهو شخصان يكترث لهما، يحبونهما أو يمقتوهما. الشحنة العاطفين تجاه كل واحد منهما تغطي على الموقف من الاتفاق. أعرف أناساً، في الولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء، ممن وجدوا صعوبة مشاهدة الاحتفال. فسلوك ترامب ونتنياهو يضيق عليهم الخناق. البشائر الطيبة هي بشائر طيبة، ولا يهم على لسان من تأتي.
الرئيس عاشق
لقد درج على الافتراض بأن ترامب يأتي إلى ما هو جاهز. دوره في العمل اليومي بالحد الأدنى. فهو لا يتمتع بالقدر اللازم من الإنصات لإدارة مسيرة، وتحديداً إذا كانت مسيرة معقدة تحتاج إلى صبر وخبرة ونزول إلى التفاصيل. الاحتفال.. الصور في التلفزيون.. التغريدات عبر الشبكة.. هذا كل ما يهمه.
يتبين، وفقاً لمصادر مختلفة، بأن ترامب عشق المشروع الإماراتي، يمارس الضغط على جاريد كوشنير وفريقه كي يجلب المزيد من الدول، ويمتشق المزيد من الأرانب من القبعة. في تصريح للإعلام، تحدث عن “خمس – ست” دول. فالاتفاقات تغذي نرجسيته، وتعزز صورته الذاتية كصانع للصفقات.. عظيم صانع الصفقات في التاريخ.. فنان الصفقات. وفي الهوامش، تبدو هذه مادة طيبة للانتخابات، وللمواجهات التلفزيونية مع بايدن، للإفنجيليين، للناخبين اليهود في دور العجزة في فلوريدا.
محافل في إسرائيل تشير إلى المصاعب. لكل دولة مرشحة للتطبيع حواجز خاصة بها. يفترض بعُمان أن تكون الأولى. فقد حكم السلطان قابوس هناك خمسين سنة. وكان ابن بيت في إسرائيل. وإسرائيل كانت ابنة بيت في عُمان، سراً وعلناً. في كانون الثاني من هذا العام توفي قابوس. وصعد إلى عرش السلطان ابن عمه هيثم. وإذا لم يثبت حكمه، فإنه يخشى تأطير العلاقات مع إسرائيل.
في السعودية يدور جدال: يدفع ولي العهد محمد بن سلمان إلى التطبيع؛ فالتطبيع سيرمم مكانته في الولايات المتحدة التي تضررت بشدة بسبب قتل الصحافي خاشقجي. أبوه الملك العجوز سلمان طرد الفيتو، ويرفض التخلي عن مبادرة السلام السعودية التي اشترطت التطبيع بانسحاب إسرائيل إلى خطوط 67. وفي هذه الأثناء يسمح الحكم السعودي للبحرين، الدولة المرعية، لقطع الطريق إلى التطبيع. لقد كانت البحرين جائزة الترضية من بن سلمان لترامب، وسلفة على حساب المستقبل. وفتحت سماء السعودية أمن طيران الشركات الإسرائيلية. كل هذه الأمور تجري علناً فوق الطاولة، مشكوك أن تقوم السعودية بخطوة أخرى، حاسمة، قبل الانتخابات في الولايات المتحدة.
في السودان تجد الحكومة صعوبة في التخلص من وجود منظمات الإرهاب. ولم تنضج بعد للاتفاق. أما المغرب فذو تطبيع طويل السنين مع إسرائيل ولكن الملك لا يسارع لجعله رسمياً.
حتى لو لم تدخل دول أخرى إلى دائرة التطبيع في الخمسين يوماً المتبقية حتى الانتخابات، يبقى الميل واضحاً. لقد فقد الفلسطينيون الفيتو خاصتهم على علاقات الدول السُنية مع إسرائيل. فقدوه في المرة الأولى عندما هبط السادات في البلاد، استعادوه بعد اتفاق أوسلو وها هم يفقدونه الآن مرة أخرى. المظاهرات التي لم تكن لا في عمان (الأردن)، لا في القاهرة ولا حتى في دمشق، تفيد بأن الشارع العربي تغير. لم يعد الفلسطينيون يشعلونه.
على الطريق يدفن الاتفاق مبادرة السلام السعودية. فقد تبنتها إدارات أمريكية سابقة. وسعت هذه الإدارات لصفقة تبادل أراضي الضفة مقابل السلام الإقليمي. ولكن جهودها فشلت. أما إدارة ترامب فقد سارت في أعقابها في البداية، ولكن عندما رفض أبو مازن صفقة القرن رفضاً باتاً، لم تسع الإدارة لتحسين الشروط. وبدلاً من هذا تجاوزته في الالتفافة. لا السلام مقابل الأرض، بل السلام مقابل التنازل عن الضم وصفقة سلاح إشكالية. لقد حقق ترامب أكثر مما حقق بوش وأوباما.
الذين يدفعون الآن إلى تنفيذ سريع للاتفاق هم مندوبو الإمارات: وجهتهم إلى الصفقات. متى سنفتح عندكم حسابات بنكية. كان هذا أحد الأسئلة الأولى التي سألوها. وفهم بنك ليئومي وبنك هبوعليم التلميح وبعثوا على الفور بالوفود إلى أبو ظبي ودبي.
يسعى الإماراتيون للبدء برحلات جوية مباشرة وبتدفق حر للسياح. بداية مع فيزا، وبعد ذلك بدونها. يسعون للاستثمار في التكنولوجيا العليا،و البنى التحتية، والعقارات، والأمن، وفي كل ما يدفعهم إلى الأمن ويجني لهم الأرباح. هم في حالة نشوى. قبل أسبوع من الاحتفال في واشنطن زار البلاد وفد، جلبوهم إلى وجبة غداء في مطعم الناعورة في أبو غوش. “لا تصوروا”، أمر المرافقون الإسرائيليون. أما الإماراتيون فلم يكن يهمهم. فقد التقطت لهم صور مع الطفل ابن صاحب المطعم الذي ارتدى على شرف الصورة جلابية بيضاء. نموذجهم تركيا، ويسألون لماذا يمكن لتركيا الإسلامية أن تتاجر بالمليارات مع إسرائيل، وتملأ جدول الطيران في مطار بن غوريون وتفتح بواباتها للسياح الإسرائيليين، أما نحن فلا؟ يهاجمنا أردوغان على ما يفعله هو نفسه، فهو مزدوج الأخلاق. ونحن نستخف بذلك.
نتنياهو، من خلفك
لم يسافر غابي أشكنازي، وزير الخارجية في حكومة نتنياهو، إلى البيت الأبيض رغم أن الاتفاقات وقعت على مستوى وزراء الخارجية. في فعل وقح ومتعالٍ وغير قانوني، أخذ نتنياهو كل السلام لنفسه ولم يبقِ شيئاً لزملائه. من يأكل وحده يمت وحده، كما درج القول في الجيش، ولكن نتنياهو اعتاد على أمر آخر. كان يمكن لأشكنازي أن يجلس مساء الثلاثاء في البيت، وحده أمام التلفزيون، ليشاهد الاحتفال ويأكل القلب. ولكنه اختار الذهاب إلى مناسبة جماهيرية. كمنت له هناك.
جرت المناسبة في متحف بلاد إسرائيل في تل أبيب. جمعية تسمى “شراكة درع إسرائيلية” تساعد المقاتلين الذين أصيبوا بصدمة قتالية، بادرت إلى مشروع صور: ثمة مقاتلون ومقاتلات مصابون التقطت لهم صور مع شخصيات اختاروهم، سياسيين وفنانين. تصور روبي ريفلين، رئيس الدولة، مع ليئور نير مسعف أصيب في لبنان؛ نفتالي بينيت مع درور كندلشتاين، مقاتل في الهندسة القتالية؛ غابي اشكنازي مع شاحر كنفو، مظلي. ووقف الوافدون في الطابور لالتقاط صور السلفي مع أشكنازي. وشعر بأنه في البيت.
في أثناء اليوم، عندما تبين لنتنياهو بأنه لا يستطيع أن يوقع دون موافقة أشكنازي، كان هناك من أوصاه بالرفض. هكذا كان سيتصرف نتنياهو. أما أشكنازي فقال ما المعنى؟ قرأ الأوراق، لم يجد فيها مشكلة، تأكد أنها ستجتاز إقراراً في الحكومة فوقع.
للاتفاق -من ناحية أشكنازي و”أزرق أبيض”- آثار بعيدة المدى، فقبل كل شيء سيشطب الضم عن جدول الأعمال. لقد أوضحت الإمارات بأن الضم يمنع التطبيع. ولن تأتي دول عربية أخرى ولن تتخذ خطوات مرحلية. لا يقول نتنياهو الحقيقة للإسرائيليين في هذا الموضوع.
لم يقف الأمر عند منع الضم: فالدينامية الناشئة مع الاتفاق ستصعّب على الحكومة تقرير خطوات من طرف واحد في المناطق. لا ترغب إدارة ترامب في إحراج دول الخليج، وهذا سيؤثر على البناء في المستوطنات، وربما حتى على هدم المنازل.
في مفهوم معين يعود حل الدولتين ليكون ذا صلة. وسيتعين على استئناف المفاوضات انتظار إلى ما بعد اعتزال أبو مازن. كل الجهود التي بذلت لإقناعه تلطيف حدة موقفه اصطدمت بالحائط. مندوب الدول المانحة الذي التقاه مؤخراً اقترح ضخ المال للسلطة مقابل استئناف التنسيق الأمني، وحتى هذا رفضه. ولكن الجيل التالي من القيادة الفلسطينية كفيل بإعادة احتساب المسار. فالفلسطينيون يرون ما يحصل في المحيط والعالم العربي. تعمل وزارة الخارجية دائرة للدبلوماسية العامة، وتتابع الشبكات الاجتماعية في العالم العربي. ثمة تغيير في الوعي.. تطلع إلى التقدم.. إلى التطبيع، يجرف الشباب. وهذا أيضاً ما يحدث في الرحاب الفلسطيني.
لقد أضعفت أزمة كورونا نتنياهو بين الجمهور، وإذا حل الحكومة في تشرين الثاني، فسيفقد في الانتخابات كل ما لديه. في الطريق السياسي الذي يسير فيه، يبدو غانتس شريكاً أكثر راحة بكثير من بينيت.
في فترة ولاية الحكومات الانتقالية اعتاد نتنياهو أن يقرر وحده. وزراء “أزرق أبيض” مقتنعون بأن هذه الفترة انتهت. هكذا يبدو الحال من جانبهم: فقد منعوا الضم؛ وفتحوا الباب لاتفاقات سلام؛ وأنقذوا جهاز القضاء؛ وضمنوا أن يقدم رئيس الوزراء إلى المحاكمة.
لديهم ما يروونه للأحفاد.
بقلم: ناحوم برنياع