قد يفتح اتفاق بريكست الباب لموجة جديدة من ترتيبات تحرير التجارة العالمية، تختلف مع بقايا سياسات الحماية التجارية التي ما تزال تهيمن على العلاقة بين الكتل التجارية العملاقة وبين غيرها من التكتلات المحدودة أو الدول الصغيرة، وهو ما نلحظه بوضوح في السياسة الزراعية للاتحاد الأوروبي، وهي سياسة حمائية في جوهرها، والسياسة التجارية للولايات المتحدة وهي ليست سياسة حمائية فقط ولكنها عدوانية تحاول استخدام العقوبات كوسيلة لقهر الطرف الآخر، كما يحدث مع إيران. ومع ذلك فإن الوقت ما يزال مبكرا لتقييم نتائج الاتفاق الذي من المتوقع أن يتعرض خلال تنفيذه، خصوصا في البدايات لأزمات وصدمات من شأنها أن تؤدي إلى تنحية تأثير جوانب منه، وتكريس جوانب أخرى، وهو ما سيسمح للمحللين وصناع السياسات التجارية بتطوير نموذج جديد لمناطق التجارة الحرة في العالم، يبتعد إلى أكبر حدود ممكنة عن الطابع الحمائي. من هنا تأتي أهمية التعرف على معالم الاتفاق وآثاره المتوقعة على كل من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وعلى مستوى الرفاهية العالمية.
معالم الاتفاق
يغطي اتفاق بريكست الذي تم التوصل إليه بين المفاوضين البريطانيين والأوروبيين يوم 24 كانون الأول/ديسمبر الماضي ثلاثة مجالات رئيسية، المجال الأول هو العلاقات الاقتصادية والتعاون المشترك، والثاني يتعلق بترتيبات المبادلات والعلاقات عبر الحدود بين ايرلندا الشمالية وجمهورية ايرلندا، وهو النطاق الجغرافي الوحيد الذي يوجد فيه اتصال أرضي بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. وتخضع هذه الترتيبات لمبدأ احترام وضمان الحريات الأربع المنصوص عليها في اتفاق السلام الايرلندي لعام 1998 وهي حرية تنقل الأفراد والسلع والخدمات والأموال. أما المجال الثالث فهو حقوق الصيد داخل المياه الإقليمية البريطانية والمياه المشتركة.
التجارة
يبلغ حجم التجارة السلعية والخدمية المتبادلة سنويا بين الطرفين حوالي 900 مليار دولار نصفها تقريبا سلع ومنتجات عينية، والنصف الآخر خدمات مثل الخدمات المالية والنقل والطيران والاتصالات. وقد نص الاتفاق على تحرير التجارة السلعية بالكامل من كافة الرسوم الجمركية والقيود الكمية مثل أنظمة الحصص التصديرية المسموح بها في بعض السلع. لكن كل المنتجات المتبادلة عبر الحدود ستخضع للقيود الفنية وأهمها المواصفات الصحية والبيئية والتكنولوجية، وهو الأمر الذي يمكن أن يمثل عائقا مهما يعترض تدفق التجارة السلعية بين الطرفين. في الوقت نفسة فإن التجارة السلعية ستخضع لرسوم وقيود مرتبطه بالجوانب الخدمية مثل رسوم عبور الشاحنات والتأمين على البضائع وشهادات الفحص الفني للشاحنات للتأكد من مطابقتها المعايير البيئية المطبقة في كل بلد، وشهادات المواصفات الفنية للسلع للتأكد من مطابقتها لمثيلاتها المنافسة في الأسواق الأوروبية. ولذلك فإنه من المتوقع أن يتأثر حجم التجارة السلعية المتبادلة سلبا نتيجة للاتفاق، وذلك على الرغم من أنه ينص على تحريرها من كافة القيود الجمركية والكمية.
أما الجانب الآخر من التجارة المتمثل في الخدمات، وأهمها على الإطلاق الخدمات المالية التي تتفوق فيها بريطانيا، فإنه سيتأثر تأثرا شديدا نظرا لعدم اتفاق الطرفين على وضع معايير مشتركة لكيفية تنظيمها. ومن المقرر أن يتم تنظيم تجارة الخدمات المالية على أساس مبادئ “التماثل والتكافؤ والعدالة التنافسية”. وتعتبر تجارة الخدمات المالية المصدر الرئيسي للفائض التجاري البريطاني مع الاتحاد الأوروبي. ومن أهم المعاملات المالية التي ستتأثر اعتبارا من اليوم الأول لتنفيذ الاتفاق هي عمليات شراء وبيع الأسهم والسندات وتسوياتها المالية وعمليات التحويلات النقدية بين الأصول المالية المقومة باليورو وتلك المقومة بالاسترليني أو العملات الأخرى والتي كانت تتم في لندن على وجهه الحصر تقريبا، والتي تعادل ما يصل إلى 10 مليارات دولار تقريبا يوميا. ومن هنا فإنه من المرجح أن ينتقل مركز المعاملات المالية داخل الاتحاد الأوروبي تدريجيا من لندن إلى مراكز جديدة في أوروبا مثل فرانكفورت وباريس وأمستردام. هذا الانتقال سيؤدي بالتأكيد إلى تراجع مكانة لندن كمركز تجاري عالمي، وهو ما سوف ينعكس سلباً على كل قطاعات الاقتصاد بما في ذلك الاسكان التجاري في الحي المالي الفخم الذي يقع شرق لندن. وفي المقابل سوف تزدهر مدينة فرانكفورت على وجه الخصوص كمركز مالي أوروبي، وأحد المراكز المالية العالمية.
الحدود الايرلندية
أكد الاتفاق ما جاء في ملحق الاتفاقية الرسمية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي السارية المفعول منذ 31 كانون الثاني/يناير 2020. وقد تناول هذا الملحق ترتيبات تجارة السلع وعبور الأفراد والسيارات والمواشي وانتقال الخدمات والاستثمارات، بهدف ضمان استمرار السلام داخل ايرلندا واستقرار العلاقات بين الايرلنديين البروتستانت والكاثوليك داخل ايرلندا الشمالية وعلى جانبي الحدود. وكان هذا البروتوكول الملحق بالاتفاقية الرسمية مهددا بسبب سعي حكومة بوريس جونسون لتغيير ما تشاء منه. وهو الأمر الذي أثار عاصفة سياسية في الولايات المتحدة التي كانت شريكا في اتفاق السلام الايرلندي، وأدى بالاتحاد الأوروبي إلى التهديد بمقاضاة بريطانيا أمام محكمة العدل الدولية في حال انتهاكها للقانون الدولي، على اعتبار أن اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أصبحت تخضع للقانون الدولي منذ توقيعها، وأن هذه الاتفاقية تتضمن البروتوكول الخاص بالمسألة الايرلندية. وينص الاتفاق النهائي الذي تم التوصل إليه على ضمان عدم انتهاك البروتوكول. ومن المقرر أن يتم التصويت على الترتيبات بشأن المعاملات عبر الحدود الايرلندية مرة كل أربع سنوات في الجمعية التشريعية للإقليم، لكن من المرجح أن يستمر مجالا للنزاعات بين الطرفين نظرا لتعقيداته الشديدة من ناحية ونظرا للانقسام الحاد بين الأحزاب الموالية للنظام الملكي البريطاني، وتلك المؤيدة للوحدة مع جمهورية ايرلندا بما يحقق وحدة الجزيرة الايرلندية ككل.
حقوق الصيد
على الرغم من أن قطاع صيد الأسماك في بريطانيا ليست له هذه الأهمية الكبرى في الاقتصاد، حيث لا يتجاوز نصيبه عُشرا من واحد في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه كان طوال المفاوضات إحدى النقاط الشائكة التي عجز فيها المفاوضون حتى الأسابيع الأخيرة عن تقريب المواقف بينهم. وقد أظهر الاتفاق أن الجانب البريطاني قدم تنازلات ساعدت على وضع ترتيبات لقبول نظام لحقوق الصيد لا يتضمن تضييقا على سفن الصيد الأوروبية داخل المياة الإقليمية البريطانية، ويسمح لها بالصيد إلى مسافة تصل إلى ستة أميال من الشواطئ البريطانية بينما كانت نقابات الصيادين في بريطانيا ترفض تقليل المسافة عن 12 ميلا. ومن المقرر أن تتم مراجعة الترتيبات الخاصة بالصيد خلال فترة تصل إلى خمس سنوات ونصف السنة، وهو ما يعد تراجعا من الجانب الأوروبي الذي كان يسعى لأن تكون مدة سريان اتفاق الصيد 14 عاما على الأقل كفترة انتقالية.
الآثار المتوقعة
منذ اليوم الأول من كانون الثاني/يناير ستكون آثار اتفاق بريكست النهائي لتنظيم العلاقات المستقبلية واضحة على جانبي القنال الإنكليزي، وستكون التغيرات في نظم عبور الشاحنات والبضائع والسيارات من أهم مظاهر بريكست التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة. من الناحية التجارية ستجد بريطانيا نفسها داخل حدود اقتصادية أضيق، بينما سيخسر الاتحاد الأوروبي سوقا تعدادها 66 مليون مستهلك وحجمها الاقتصادي حوالي 2.3 تريليون جنيه إسترليني تعادل 15 في المئة تقريبا من الحجم الكلي للسوق الأوروبي. لكن نظرا لضخامة وأهمية قطاع الخدمات المالية في بريطانيا، فإن المعاملات في سوق المال البريطانية التي ستبدأ غدا للمرة الأولى على أسس الاتفاق الجديد، ستقدم بعض المؤشرات القصيرة الأجل لكيفية تأثير الاتفاق على قطاع الخدمات المالية على جانبي القنال الإنكليزي. الاستنتاجات العامة من الدراسات التي أعدها الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تشير إلى أن المركز المالي العالمي للندن سوف يتراجع، في حين ستتقدم مراكز منافسة في ألمانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا، وهو ما سيقود إلى درجة أعلى من المنافسة في قطاع الخدمات المالية داخل منطقة اليورو. بشكل عام ستخسر بريطانيا حوالي 1 في المئة من معدل نموها خلال الربع الأول من العام الجديد، بينما سيخسر الاتحاد الأوروبي 15 في المئة من حجمه الاقتصادي. وستكون آثار صدمات الاتفاق أشد ظهورا في الربع الأول من العام الأول من سريانه. ومع ذلك فإن الاتفاق يوفر قدرا كبيرا من الاستقرار واليقين مقارنة بالفترة السابقة التي تضاربت فيها التوقعات وبسبب تناقض المواقف التفاوضية.
مناطق التجارة الحرة
من الآثار المهمة التي سيشهدها الاقتصاد العالمي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي زيادة عدد مناطق التجارة الحرة الثنائية أو المتعددة الأطراف. وترتكز فلسفة بريكست على تحرير سياسة بريطانيا التجارية من قيود الارتباط بالسياسة التجارية الأوروبية التي يتم إقرارها في بروكسل. ويعتقد بوريس جونسون ورفاقه من أنصار بريكست ان بريطانيا ستكون في وضع تجاري أفضل على مستوى العالم، وذلك بتوقيع اتفاقات تجارية ثنائية مع شركاء تجاريين أقوياء مثل الولايات المتحدة واليابان وكندا وأستراليا والصين وسنغافورة وماليزيا وفيتنام وتركيا ودول الخليج العربية وغيرها. وقد نجحت بريطانيا فعلا في توقيع اتفاقيات تجارة حرة مع عدد من هذه البلدان، مع استمرار جهود وزارات التجارة والتنمية الدولية والخارجية في العمل على فتح أسواق جديدة حول العالم.
وزيادة عدد مناطق التجارة الحرة في العالم، إذا ترافق مع ارتفاع مستوى كفاءة هذه المناطق، من شأنه أن يؤدي إلى زيادة مستوى التنافسية التجارية، وارتفاع مستويات الرفاهية للدول المشاركة فيها.
لكن مناطق التجارة الحرة قد تؤدي أيضا إلى زيادة قوة نزعة الخروج على النظام التجاري العالمي الليبرالي المتعدد الأطراف، ويساعد الدول الأقوى اقتصاديا وسياسيا على تحقيق مكاسب أكثر على حساب الدول الفقيرة الضعيفة اقتصاديا.
ابراهيم نوار