بقلم : أحمد نور الدين
تسعى أوربا جاهدة للتخلص من سيطرة موسكو على أزيد من 40% من حاجاتها لمصادر الطاقة. ذلك لأنّ هذه التبعية في مجال الغاز الطبيعي بالخصوص، جعلت بروكسل عاجزة في أحيان كثيرة عن مواجهة موسكو في قضايا حقوقية أو جيوسياسية حساسة مثل ما حدث على التوالي في قضية المعارض الروسي أليكسي نافالني الذي تعرض للتسميم، أو عند ضمّ شبه جزيرة القرم سنة 2014 في اعتداء واضح على سيادة دولة أوربية عضو في الأمم المتحدة. وقد شكل هذا الحادث الأخير تحدّيامزدوجاً للاتحاد الأوربي وحلف الناتو اللّذيْن سبق لأوكرانيا أن طلبت الانضمام إليهما.
ورغم ما تشكله خطوة موسكو من تهديد لنظام السلم والأمن العالميين، من حيث أنها تريد إعادة رسم الحدود بالقوة العسكرية، فقد اقتصر ردّ الفعل الأوربي على عقوبات طفيفة لم يكن لها بالغ الأثر على قرارات قيصر روسيا الجديد. بل إن هذا الانتهاك الخطير للقانون الدولي لم يمنع الأوربيين من مواصلة تنفيذ مشاريع اقتصادية جديدة مع موسكو من شأنها أن تعزز إحكام قبضتها على سوق الطاقة في القارة العجوز. وعلى رأس تلك المشاريع “السيل الشمالي الثاني”، والذي يربط روسيا بألمانيا مباشرة عبر أنبوب ينقل الغاز الطبيعي في أعماق بحر البلطيق.
ويبدو أنّ التساهل الأوربي والغربي عموماً قد فتح شهية فلاديمير بوتن للتوسع في مناطق أخرى من العالم، وهو ما حدث في سورية عاماً بعد ذلك أي سنة 2015. ثمّ تكررت التجارب في مناطق أبعد مثل إفريقيا الوسطى ومدغشقر وليبيا سنة 2018 وأخيراً مالي سنة 2021. وأمام تردد الدول الغربية أو تراجعها احياناً، قدّر الكرملين أنّ الوقت قد حان للعودة إلى اتفاق 1997 بين روسيا والحلف الأطلسي، والذي تضمن تفاهمات بعدم توسيع حلف الناتو نحو دول أوربا الشرقية عموماً والجمهوريات السوفياتية السابقة تحديداً، وهو ما لم يلتزم به “الناتو” الذي ضم تقريبا كل دول أوربا الشرقية بالإضافة إلى جمهوريات البلطيق السوفياتية الثلاثة.
ولإدراك هذه الغاية مرّ الكرملين إلى السرعة القصوى بالضغط الميداني وحشد الجيوش وإطلاق مناورات واسعة النطاق على الحدود الأوكرانية، والتلويح بعمل عسكري وشيك، مطالباً الحلف الأطلسي بتقديم تعهدات مكتوبة بإغلاق “سياسة الباب المفتوح” في وجه أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا.
ورغم نفي الرئيس فلاديمير بوتن وجود أي نية لغزو أوكرانيا، إلاّ أنّ التهديدات التي أطلقها نائب وزير خارجيته سيرغي ريابكوف خلال لقاء جمعه في جنيف بنظيره الأمريكي في العاشر من يناير 2022، فاقَمَت من احتمالات اجتياح روسي، حيث صرح للصحافة أنّه إذا لم يوافق الحلف الأطلسي على مقترحات موسكو فإنّ “أمن القارة الأوربية معرض للخطر”.
موسكو كانت تستعمل بذلك تكتيك “حافة الهاوية” لانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات، ولكنها لم تتوقع أن تسايرها الإدارة الأمريكية في نفس الخطة والدفع بكل قوة نحو إشعال فتيل الحرب. فقد سعت واشنطن إلى إغلاق كل المنافذ أمام بوتن، وجعلته أمام خيارين أحلاهما مرّ، فإمّا أن يُنفذ تهديداته ويجتاح أوكرانيا ولو جزئياً، وبذلك يكون قد قدم هدية ثمينة للرئيس الأمريكي الذي تعهد حلفاؤه الأوربيون وعلى رأسهم المستشار الألماني بتشديد العقوبات على موسكو، بما في ذلك التخلي عن خطّ “السيل الشمالي 2” الذي شكل مطلباً استراتيجيا لواشنطن. وهو ما يعني عملياً تعويضه بالغاز الأمريكي المسال، بالإضافة إلى تكريس عزلة روسيا دوليا. أمّا الخيار الثاني، فهو تراجع بوتن وسحبه لقواته المنتشرة على الحدود الأوكرانية، وفي هذه الحالة سيخسر كل مطالبه المتعلقة بوقف توسع الحلف الأطلسي وإحياء معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، وهذا أيضاً مكسب ثمين لواشنطن.
وأياً تكن نتائج الأزمة الأوكرانية الحالية، فإنها أظهرت من جهة أنّ أوربا لم تعد رقما أساسياً حتى في القضايا التي تهمّ أمنها الاستراتيجي، وأنها أصبحت مهمشة في صراع تدور رحاه فوق أراضيها. ومن جهة أخرى فقد استطاع بوتن أن يحقق ما عجزت عنه واشنطن نفسها من عودة قوية لحلف الناتو الذي كان يعاني من مشاكل وتصدع داخلي، بل ومن تساؤلات حول الجدوى من استمراره.
كلّ ما هنالك أنّ هزيمة بوتن وإهانته بهذا الشكل ستدفعه بقوة إلى أحضان التنّين الصيني الذي يراقب من بعيد أطوار هذه المعركة للانقضاض على فريسته. وتحالف من هذه الطبيعة أكيد أنه سناريو مرعب للغرب وسيربك حسابات واشنطن وحلف الناتو، خاصة وأنّ البلدين وقعا في بيكين، خلال افتتاح الألعاب الشتوية بداية شهر فبراير الجاري، اتفاقاً “للشراكة بلا حدود” يشمل التعاون العسكري وتكنولوجيا الفضاء، وهما مجالان لم تقل فيهما موسكو كلمتها الأخيرة بعد..