تشابه مثير بين قونيا ومراكش
تكاد مدينة قونيا، أو كونيا، كما ينطقها أهلها، والأتراك، تشبه مراكش. بينهما أشياء كثيرة مشتركة. فكلاهما مدينة جنوبية. وهما معا عبارة عن سهل منبسط، أو يكاد يكون كذلك، تحيطه وهاد وجبال. والمدينتان قديمتان جدا، غير أنهما تجددتا كثيرا، دون أن تفقدا الأسماء والصفات، والحس الذي لدى الأهالي. ولكليهما رجالات أشهر من نار على علم. وفي كل منهما برد قارس شتاء، وحر قائظ صيفا. وفي كل منهما طاكسي أصفر، وبنايات مصبوغة بالأحمر العجيب.
ليس هذا وحسب، فمثلما أن الدراجات الهوائية والنارية توجد بمراكش، حيثما وليت وجهك، فكذلك الشأن بالنسبة إليها في مدينة قونيا. أما الهواء فهو نفسه، بلا أدنى زيادة أو نقصان. ومما يجعله كذلك تلك الطبيعة الخاصة للمدينة الواقعة بين جبال ووهاد، بأشجارها المنوعة، التي لا ينقصها إلا النخيل. ناهيك عن تلك التذكارات المبثوثة في المحلات الخاصة، وضمنها مثلا حبات “الكركاع”، و”الحناء”، وغيرها.
ولئن كان صحيحا أن مدينة مراكش تملك جامع الفناء، وسوقه العجائبي، فضلا عن البهجة، فإن قونيا تملك هي الأخرى ضريح مولانا جلال الدين الرومي، حيث الوفود تترى، وفدا بعد وفد لزيارة يراد منها البركة، مع تذكارات عن المزار، وعن الرحلة التي لا تنسى، بفعل طابعها الروحي الأسطوري الغالب على كل الأشياء الأخرى غيرها.
شهادات مختلفة عن قونيا
قال رجل سوري، يشارف الستين من عمره ويشتغل في محل لبيع المأكولات الشعبية، وقد وضع كأس الشاي الأحمر: “لا يملك المرء إلا أن يجالس أناسا طيبين مثلكم”. وحين سئل عن قونيا وأهلها، لم يتردد في القول: “أنا هنا منذ ثمان سنوات، ولم يسبق لأي أحد أن قال لي كلمة واحدة تسوءني. الناس هنا طيبون، وأنا أيضا في حالي. أشتغل في جو هادئ، وأعيش بهدوء”.
وبينما نفى الرجل المسن أي معرفة له بالمدينة، رغم كل تلك السنوات التي عاش بها، قالت شابة من مالي، تدرس بقونيا وتعمل حاليا متطوعة في تدبير ألعاب التضامن الإسلامي، إنها تعجب لهذا الشكل الهندسي المثير للمساجد، بتلك المآذن الكثيرة والرفيعة، فضلا عن تلك القباب التي تفضي، في العادة، إلى قبة ضخمة، هي التي ترتفع سقفا لكل مسجد. وزادت بأن المدينة وإن تجددت، فقد حافظت على أسمائها القديمة دون أي تغيير. وقالت لنا إن الجانب الروحي يطغى بقوى، “ويكفي للتدليل على ذلك أن أبرز معلم بقونيا هو ضريح مولانا جلال الدين الرومي، وبعض الأشياء ذات الارتباط به”.
شاب سوداني، يدرس هو الآخر بقونيا ويعمل متطوعا أيضا، قال لنا إنه أحب المدينة من الوهلة الأولى. لم يعرف بالضبط كل الأشياء التي جعلته يحبها، ولكن الهدوء كان واحدا منها بحسبه. وهو يتأهب ليواصل الدراسة فيها، بما توفره له من ظروف للتأمل والتركيز والبحث، دون أن تتوفر في أمكان أخرى بأسماء رنانة.
أشياء جميلة على الهامش..
العوينة، أو السبالة، أو السقاية، من ضمن الأشياء الجميلة في مدينة قونيا، إذ تتوزع هنا وهناك. وهي عبارة عن بناء صغير من رخام، بقبة تظلله، وله أربع مشارب لمن يريد ري العطش. وقد يعبر أحدهم من جانبك، فينصحك بأن تشرب من مائها، على اعتبار أنه ماء مبارك، ويقول لك: “بالشفاء.. بالشفاء”.
في قونيا، المدينة التي توجد في محافظة بالاسم نفسه وتقع جنوب الأناضول، وتزاوج بين النشاط الزراعي والصناعي، على السواء، تلاحظ أن الأسماء الدالة على محلات البيع أو غيرها تكتب بحروف كبيرة جدا، وتكاد تملأ جدران المباني، والعمارات. وهذا يعطي للخط التركي، المكتوب بألوان مختلفة وأحجام متنوعة، فرصة لكي يبرز جليا لابن المدينة وللضيوف.
وحين يصدح الأذان، ولاسيما أذان صلاة الفجر، فلابد أن يشدك إليه بذلك الصوت الشجي، والمقامات العجيبة، وهو يصدر من مشكاة واحدة، مسجلا، ليصدر من كل المآذن، لتلك الآلاف من المساجد المبثوثة في كل مكان من قونيا، بقبابها الضخمة، وهي تعلو على الصحون، فتعطي جمالية خاصة إذ تقع بين مآذن متطاولة ورفيعة.
تسمى مدينة القلوب. وتسمى قلعة الإسلام. وتسمى بأسماء أخرى كثيرة. وهي في النهاية مدينة جميلة، بروح ساحرة، وميزات تخصها. وقد كتب لها أن تصبح مزارا مليونيا على مدار العام، وخاصة في تلك المواسم المرتبطة بضريح جلال الدين الرومي، المتصوف ذائع الصيت.
قونيا ليست بحجم إسطنبول من حيث الشهرة. ولكن الشهرة ليست هي كل شيء، أو أهم شيء. فهناك مدن اختارت أن تتواضع، رغم علو هامتها.