عز الدين السريفي
بات واضحا الآن لأصحاب القرار في الجزائر، أن الموقف الأمريكي الداعم لمغربية الصحراء، ليس مجردة “تغريدة ترامب على إكس (تويتر سابقا)” وفق ما روجت له طيلة السنوات الأخيرة، إذ أصدرت الخارجية الأمريكية أمس الثلاثاء بلاغا تضمن التأكيد بشكل صريح على الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء.
هذا الوضوح التام في الموقف الأمريكي، دفع الجزائر “مضطرة” إلى الخروج ببلاغ عبر وزارة الخارجية، اليوم الأربعاء، -بعدما أخذت وقتا على غير ما هو معتاد على ردود فعلها السريعة تُجاه بلدان أخرى- للتعبير عن أسفها من هذا الموقف، مستعملة نبرة دبلوماسية “لينة”، بخلاف نبراتها ضد دول اتخذت مواقف مماثلة، كفرنسا وإسبانيا على سبيل المثال.
بالرغم من المحاولات المكشوفة للإيحاء بتماسك الموقف الجزائري، إلا أن مظاهر الازدواجية في الخطاب، بدت واضحة في الإشارات التي لا تستوجب الكثير من القراءة المتأنية لفقراته، لاكتشاف التحول الواضح في الخطاب الرسمي الجزائري، والذي تفرضه لا الإرادة السياسية في قصر المرادية، بل جاء كنتيجة حتمية لضغط الواقع الجيوسياسي الجديد، وقوة الدبلوماسية المغربية بقيادة جلالة الملك محمد السادس.
ولعل أول ما يلفت الانتباه في هذا البيان المرتجل، هو أنه لأول مرة في تاريخ البيانات الجزائرية المتعلقة بالصحراء المغربية، يغيب تماما ذكر مصطلح “الاستفتاء”، وهو ما يمكن اعتباره تمهيدا لتحول جذري في موقف الدولة الجزائرية، هذا المصطلح الذي ظل بمثابة “الكتاب المقدس” الذي لا يُمس في خطابها الرسمي لعقود، اليوم، وبكل هدوء، اختفى من البيان دون تفسير أو تبرير.
وإن أكثر ما يثير الدهشة في البيان المذكور، هو تجنبه الاحتجاج على الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، اذ جاء أعلى سقف له، الأسف على اعتبار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الحكم الذاتي كإطار وحيد للحل، وهو بحد ذاته اقرار ضمني بأن الجزائر لم تعد قادرة حتى على الطعن في مغربية الصحراء أمام القوى الدولية، بل أصبحت تكتفي فقط بانتقاد شكل الحل لا جوهره.
ومن أجل اكتمال صورة تقهقر الموقف الطغمة العسكرية، فمن السهل جدا ملاحظة رسائل الفقرة الثانية من البيان، الموجهة بوضوح إلى الشعب الجزائري، وهي أشبه بـ”تطمينة يائسة” للرأي العام الداخلي بأن الأمور خرجت عن السيطرة، وأن أمريكا كعضو دائم في مجلس الأمن فرضت منطق القانون الدولي، ولا مجال للمناورة، وكان العنوان الأبرز لهذه الرسالة غير المعلنة هو: “يا جزائريين، الله غالب.. أمريكا حسمت، واللعبة انتهت.”
أما الفقرة الثالثة، فهي صفعة مباشرة لـ “البوليساريو”، فقد عرَّفَ بيان الخارجية الجزائرية ولأول مرة قضية الصحراء بـ “الإقليم غير المتمتع بالحكم الذاتي”، وهو توصيف قانوني دقيق يعكس اعتراف الجزائر الضمني بأن الحل القادم سيكون في إطار الحكم الذاتي، وليس عبر وهم “الاستقلال” الذي لطالما سوقته للمرتزقة في تندوف.
وفي هروب مكشوف من فضيحة موقفها المتقهقر، تضمن بيان الخارجية الجزائرية بعض عبارات التجميل لحفظ ماء وجه الكابرانات، فقد استعمل مصطلحات من قبيل “الاستعمار” و”الاستقلال” في البيان، لكن هذه العبارات لم يكن لها أي علاقة بجوهر الرد على الموقف الأمريكي، فعلى غير عادة الخارجية الجزائرية لم يتم حصرها بالبولساريو، بل جاءت في سياق فضفاض، في محاولة للإلتفاف على الرأي العام الداخلي بمخيمات العار، فالعسكر الجزائري يعلم أكثر من غيره، أن ثورة حارقة قد تنفجر في أي لحظة إذا أدركت ساكنة الخيام أن حلم “الدولة الوهمية” انتهى.
هذه الموجة من الانتصارات الدبلوماسية المغربية لقضية الصحراء تسبب أرقاً دائماً للنظام الجزائري. فبعدما توترت العلاقات بينه وبين فرنسا عقب تأكيد هذه الأخيرة على دعمها لخيار الحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية، ما ترتب عنه سحب الجزائر لسفيرها بفرنسا للتشاور، مع تسجيل حدة عالية في خطابها تجاه فرنسا، وما تلاه من بيانات دبلوماسية، إلا أن هذه الحدة في الموقف غابت عندما تعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية نظرا لقوتها الدولية، حيث لم يُسجل استنكار ولا مؤاخذة من طرف الجزائر، ولا سحب لسفيرها في أمريكا للتشاور، وإنما إصدار بيان يسجل الأسف فقط، وليونة في الخطاب المستعمل، ما يبين اختلاف الخطاب الدبلوماسي حسب الدولة المخاطبة، و هو الامر الذي ينم عن ضعف في الموقف، وعدم التمتع بالسيادة الكاملة. وهو ما تم تسجيله بعد تعنت الجزائر في موقفها مع فرنسا، إلا أنها رضخت رغماً عنها وأعادت الدفء إلى علاقتها معها مجبرة.
كما أن تورط النظام الجزائري في إسقاط طائرة مسيّرة تابعة للجيش المالي شمال البلاد، على الحدود المالية الجزائرية، نهاية مارس الماضي، وما خلّفه ذلك من احتقان دبلوماسي خطير نتيجة استدعاء دولة مالي وحلفائها الإقليميين، النيجر وبوركينا فاسو، لسفرائهم في الجزائر، كنوع من الاحتجاج الدبلوماسي، إضافة إلى الإدانات المتكررة والمتوالية للتصرفات غير الحكيمة للنظام الجزائري، وكذلك بيانات وزارة خارجيتها التي تهاجم هذه الدولة التي تحاول وضع أقدامها على مسار الديمقراطية والحرية. هذا التورط الجديد يعمّق من الهوة السياسية، ويوسّع فارق العلاقات بين الجزائر وجيرانها في كل الاتجاهات، كما أنه أماط اللثام عن اتهامات للجزائر بدعمها لبعض المنظمات الإرهابية الإقليمية التي تغذي الصراع، وتعيش على عدم الاستقرار، من أجل إغناء الاتجار بالبشر، ومافيا تهريب السلع والهجرة غير الشرعية، وتجارة الأسلحة والمخدرات عبر هذا الشريط الإقليمي، الشيء الذي يزيد من معاناة هذه الدول المجاورة من أجل تثبيت الأمن وحفظ النظام.
إن الانتصارات الدبلوماسية التي يسجلها المغرب بحكمته السياسية والدبلوماسية الخارجية، تزيد من سعار النظام العسكري الجزائري، وترفع من حدة عدوانيته، ليس فقط تجاه المغرب، وإنما تجاه كل من اختار الديمقراطية والنهج التنموي. فإذا كانت الجزائر فعلاً، كما تدعي، أنها ليست طرفاً في نزاع الصحراء ولا علاقة لها به، فلماذا، كلما عبّرت إحدى الدول العالمية عن دعمها لموقف المغرب باعتباره الحل السياسي الوحيد والأمثل للقضية، إلا وتبنت موقفاً عدوانياً ومنتقداً لهذه التصريحات؟ هذا ما يعكس أن النظام الجزائري هو أصل المشكل المفتعل، وهي التي تزود طرفه الآخر بما يحتاج من إمكانيات وموارد لاستمراره على موقفه، عوض تسخير هذه الأموال والإمكانيات لخدمة الجزائر وتنميتها وتحقيق نماء اقتصادي للشعب.